الاستعمار والتدمير المنهجي قراءة في خيار المقاومة
21 سبتمبر
الاستعمار هو باختصار ممارسة هيمنة تهدف إلى السيطرة الجماعية على الجغرافيا السياسية لأمة من الأمم، وعلى مواردها الطبيعية والبشرية، وبموجب الاستعمار تفقد الأمم المستعمرة سيادتها. وبموازاة ذلك أُسست منظمة الأمم المتحدة عام ١٩٤٥م، ونظام الوصاية الدولي المنبثق عن ميثاق الأمم المتحدة القاضي بتحميل الدول المهيمنة مسؤولية إدارة من يقع عليهم الاستعمار وضمان حقوقهم في أفق مبدأ تقرير المصير. هذا من الناحية القانونية، أما من الناحية التاريخية والسياسية، فلقد جاء هذا الموقف نتيجة الحرب العالمية الثانية التي انتهت بإقرار نظام عالمي جديد، بحسابات وشروط مختلفة.
ولعل هذا القرار يحمل دلالات مهمة في شرعنة الاستعمار، بل ويؤسس له شروطا ظاهرية ومحمولات إيجابية، تشي لقارئ نصوصه بوجود بعد إيجابي في الاستعمار من حيث الإدارة، دون تحديد آلياتها ولا تشخيص مصاديقها، ومن حيث حفظ الحقوق، المفهوم الأكثر التباسا في الذهنية الغربية وفلسفتها، خاصة في البعد المعرفي كمصادر للمعرفة وقيمة هذه المعرفة. والدليل على هذا الالتباس التجارب الاستعمارية تاريخيا، واشتراكها جميعاً بأسس مخالفة لتوصيات الأمم المتحدة كالعادة.
نقدم لكم دراسة كاملة بعنوان “الاستعمار والتدمير المنهجي قراءة في خيار المقاومة”، يمكنكم تحميلها بشكل كامل في أسفل الاقتباس أدناه الذي سيقتصر على ثلاث عناوين:
– غزة – لبنان وخيار المقاومة
– المُسْتَعْمِر والتدمير المنهجي
– المقاومة ومعركة الوعي
غزة – لبنان وخيار المقاومة:
بعد حرب غزة التي أسقطت ورقة التوت عن الغرب، وكشفت حقيقة المؤسسات الدولية وقوانينها ولصالح من وضعت، ومن هو المعني في خلفياتها المعرفية بالإنسان وتعريفه، باتت تتكشف مجدداً أفكار الاستعمار المكتنزة في الشخصية الغربية، وأعني بها هنا الحكومات، وهنا لا أرفع المسؤولية عن الشعوب الغربية، رغم دعم أغلبها لغزة، كونها هي من يذهب إلى صناديق الاقتراع ويختار هذه الحكومات، التي تمارس كل أنواع الاحتيال والتدليس في سبيل مصالحها الرأسمالية، وقيمها الليبرالية، والعلمانية، المتراوحة بين التطرف والاعتدال.
هذا الفكر الاستعماري الذي اختبأ خلف قناع الحريات والعدالة والديموقراطية، والمؤسسات والقوانين الدولية، ظهر كوحش مارد بعد حرب غزة، وكشف قناعه الاستعماري ووحشيته، بتمويل القتل والتدمير مجدداً بكل أنواع السلاح والتكنولوجيا التي توصل إليها.
فكان الخيار الأسلم في المواجهة هو المقاومة العسكرية، مع معرفة فساد تأويل القوانين الدولية، وتمييعها، وقلب دلالاتها لتخدم إرادة الدول الكبرى الحليفة والراعية للكيان الصهيوني، كأحد أذرعتها الاستعمارية المهمة في منطقتنا الغنية بالثروات المادية، خاصة الطاقة، والثروات الثقافية المتنوعة في الهوية والانتماء.
المُسْتَعْمِر والتدمير المنهجي:
للاستعمار سمات عامة مشتركة وللكيان الصهيوني سمات أيضا خاصة، والسمات العامة تم ذكرها في الدراسة، وأما السمات الخاصة بالكيان الصهيوني فأهمها:
– تدمير منهجي للبنى التحتية والمباني السكنية، وما عقيدة الضاحية التي طورها “غادي آيزنكوت” رئيس الأركان العامة الإسرائيلية السابق، التي تقوم على الردع باستخدام القوة المُفْرِطة، والتّدمير الشامل، وقتل المدنيين بارتكاب مجازر وإبادات جماعية لكسب المعركة، إلا دليل قطعي على هذه السّمة البارزة.
– تدمير الهوية التاريخية للمنطقة، بمسح قراها القديمة، ومساجدها الأثرية، وتراثها الأثري، كنوع من مسح الذاكرة التاريخية للأجيال القادمة لتضعيف روابطهم بالمكان والزمان والتاريخ، والقدرة على بناء هوية مغايرة للواقع لتلك الممتدة بالتاريخ وبالمرتبطة بحكايته وتراثه وآثاره الشاهدة عليه.
– استهداف الكيان الطبي، من مسعفين وأطباء، ومستشفيات، وكل ما له صلة ووظيفة في الحرب يتعلق برعاية الإنسان وحفظ حياته وكينونته المتعلقة بالجسد، لإيقاع أكبر عدد من الشهداء، ومن ذوي الإعاقة، الذين يصبحون معطلين، وعاجزين عن أي خيار مستقبلي في مواجهة هذا العدو المتوحش، أو يصبحون عالة على مجتمعهم الذي يعاني بالأصل نتيجة الحرب.
– استهداف دور العبادة، سواء المساجد أو الكنائس، والتي لها علاقة بهوية الإنسان وذاكرته الدينية، وهذه تأتي من عقيدة الصهيوني، الذي لا يرى حقيقة دينية سوى يهوديته، فلا يقيم أي احترام وتقدير للأديان الأخرى.
– استهداف المدنيين الحاضنين للمقاومة من حيث العدة والعتاد والعديد والثقافة، لمعاقبتهم على هذا الخيار، ولتأليبهم على المقاومة لتجفيف منابع الدعم والحماية، ولتغيير عقيدتهم المقاومة، إلى عقيدة استسلام للعدو الصهيوني، والخضوع لإرادته.
– التعتيم الكامل على الخسائر التي يتكبدها العدو الصهيوني نتيجة ضربات المقاومة، لعدم التأثير على معنويات وصمود المجتمع الصهيوني الهش، وللتأثير على معنويات البيئة الحاضنة للمقاومة، ولتقزيم الفعل المقاوم وآثاره وإنجازاته، وهو ما يشيع أجواء اليأس من هذا الخيار والاقتناع بعدم ناجعيته في المواجهة.
لكن رغم هذا التوحش وظواهره، إلا أنها وإن نجحت في حقبة زمنية في بدايات الاحتلال الصهيوني للمنطقة، لكنها مع التقادم كما أسلفنا، ومع تطور الفعل المقاوم وقدراته، وفاعليته الميدانية، فإن كل هذا التوحش يعجز فيه العدو في عصرنا الراهن عن تحقيق أهدافه، وعن إجبار خصمه في المعركة على رفع راية الاستسلام، والرضوخ لشروطه المذلة، بل أمام الثبات والقدرة الميدانية، وتكبده خسائر لا يتحملها، يلجأ العدو مؤخراً ويهرول ليجد له مخرجاً سياسياً يساعده النزول عن الشجرة بأقل الأضرار.
فقد يمتلك العدو القوة العسكرية والتقنية، لكنه لا يمتلك القدرة والإرادة، أو لا تُحَوّل هذه القوة من قِبَلِهِ إلى شيء مؤثر في خيارات وقرارات المقاومة. فامتلاك القوة ليس بالضرورة يعني امتلاك القدرة، بينما امتلاك القدرة مع قوة متواضعة، يحقق للمقاومة تفوقاً استراتيجياً.
وقد تكون المقاومة أضعف مادياً من العدو من حيث القوة والتقنية، ولكنها تمتلك القدرة في توظيف ما تملكه من قوة وقدرات وإرادة فاعلة في الميدان، في استخدامها بشكل مؤثر ضد العدو، لتؤثر في خياراته وقراراته العسكرية والسياسية، فيكون مبدأ التفاوض بالنار يفشل قدرات العدو على فرض شروط في الميدان السياسي، عجز عن تحقيقها في الميدان العسكري، رغم قوة التدمير والقتل التي يمارسها على المدنيين، على الحجر والبشر والتاريخ والتراث.
فقدرة المقاومة كبيرة على ضرب نقاط الضعف في البعد المادي الذي يتفوق فيه العدو، وتعطيل تحقيق الأهداف بالصبر والثبات، بل والانتقال بعد ذلك إلى مرحلة الإيلام، التي كثفت فيها المقاومة من الضّرب بمطرقة القدرات العسكرية المُكَثّفة نوعيّاً، بشكل تدريجي من حيث القدرات، ومن حيث الأهداف الاستراتيجية في عمق الكيان المحتل.
والمقاومة نجحت في ذلك من خلال عدة نقاط قوة ركائزية أهمها:
– ما وصفه المفكر السياسي الأميركي جوزيف نايْ “الذكاء السياقي”، وهو القدرة على استيعاب ظروف الزمان والمكان والإمكان، وما يترتب عليها من ترتيب الأولويات، واختلاف الواجبات، ومَراتب المسؤوليات. وتجلى ذلك في كل مراحل الصراع، وخاصة بعد تفجير أجهزة النداء، واغتيال القيادات من الصف الأول والثاني، والوصول إلى اغتيال الأمين العام والقائد الأعلى للمقاومة، السيد الشهيد حسن نصر الله.
– الغموض الاستراتيجي: في سياق السياسة العالمية، فإن سياسة الغموض المتعمد (المعروفة أيضاً باسم سياسة الغموض الاستراتيجي أو عدم اليقين الاستراتيجي) هي ممارسة حكومة أو جهة فاعلة غير حكومية تتمثل في أن تكون غامضة عمداً فيما يتعلق بجميع أو جوانب معينة من سياساتها التشغيلية أو الموضعية. عادة ما تكون هذه طريقة لتجنب الصراع المباشر مع الحفاظ على موقف مقنع أكثر حزماً أو تهديداً بشأن موضوع ما (على نطاق واسع، استراتيجية النفور من المخاطر الجيوسياسية). وهو ما مارسته المقاومة بشكل إبداعي خاص، يتناسب وحجمها كقوة مقاومة ضمن دولة.
– الثبات في الميدان، والاستراتيجية المتدرجة في المواجهة، التي تتناسب مع وزن ونوع الموقف العسكري، بما يحقق ضربات استراتيجية تسبب خسائر عسكرية واقتصادية للعدو، وتحدث إيلاماً لا يتحمله مع التقادم كيان العدو ولا مجتمعه الهش.
– التضليل المعلوماتي وبناء شبكة معلومات وهمية مُمَوّهة، تجعل العدو الصهيوني يقرأ الميدان وقدرات المقاومة، واستراتيجيتها بشكل بعيد عن الواقع، ولا يستند لمعلومات دقيقة، فيبني على أساسها ردود فعله العسكرية، بل يحدد وفقها أهدافه من المعركة، وهو ما ينكشف ضعفه ووهنه مع الاشتباك والتلاحم، ومن ثم الانكشاف والتراجع، وخفض مستوى التطلعات والأهداف.
المقاومة ومعركة الوعي:
فنجاح المقاومة العسكرية في إفشال تحقيق العدو لأهدافه، ومنعه من تحقيق شروطه التي لأجلها وسع حربه على لبنان، وشنّها على غزة، وثبات هذا الخيار في الميدان رغم حجم الخسائر المادية، مع رصيده المعني الكبير في الثبات والصبر، واحتواء الضربات الموجعة وفق مبدأ الصبر والتوكل على الله، دليل على أن المقاومة خيار مطلوب بكافة أشكالها وفي كل أنواع المعارك، لا سيما معركة الوعي وهي أهم معركة يمكن للعدو أن ينجح في كيّها، لما يملكه من إمكانات تكنولوجية وإعلامية، وقدرات على الكذب والتدليس وتحويل الوهم إلى حقيقة، بل ما يملكه من أدوات داخليّة بشرية إعلامية ومنظمات مدنية “NGO’S”، لذلك نجاح المقاومة العسكرية، يجب أن يتسق ويتوازى في ذات الوقت مع نجاح معركة الوعي، من خلال قوة منطق الإعلام المقاوم، وقدرته على التأثير بمصداقية وواقعية وموضوعية عالية، دون اللجوء للتهريج تحت مسمى التحليل، ولا رفع الأسقف عالياً بعيداً عن الواقع، ولا من خلال التهويل لصالح المقاومة بما لا يتناسب مع واقعية قدراتها وخططها واستراتيجياتها.
إضافة إلى القدرة على استغلال هذه الحرب وما كشفته من حقيقة عرّت من خلالها المنظومة الغربية، وازدواجية معاييرها، ووجهها الاستعماري الحقيقي المستمر بدعم إسرائيل، لدرجة أن يعبر رئيس وزراء فرنسا الأسبق” مانويل فالس” في مقال له لمجلة “لو بوان” قائلا: “إذا سقطت إسرائيل سقطنا معها”.
ومن أكثر الدول الغربية التي دعمت إسرائيل هي دول الاستعمار القديم، وهي ذات الدول التي جعلت من أغلب الأنظمة العربية المُسْتَعمَرة بشكل غير مباشر، أنظمة تابعة وظيفتها تمويل الحرب، ومنع أي مساعدة حقيقية لغزة ولبنان، بل وظفت هذه الدول العربية إعلامها، ليكون ذراع إسرائيل والغرب في الحرب الإعلامية في معركة الوعي، ونشر إشاعات حتى إسرائيل نفسها لم تتبناها، وتبنت أغلب ما تقوله الصحافة العبرية من تحليلات ومعطيات الميدان والعسكر والسياسة، دون حتى أدنى مهنية في نقل المقلب الآخر من الحدث المعني بالمقاومة ومنجزاتها الميدانية ضد العدو الصهيوني.
فالقدرة على استغلال ما سبق في بناء مشروع ثقافي ومعرفي تأسيسي وليس انفعالي عاطفي، يستطيع في حالة هذا الضعف الغربي المعرفي، أن يكشف أكثر الخلل في المنهج الغربي، ويقدم البديل الصالح والمتصالح مع ذاته ومع غيره، حتى لا تدخل الأجيال التي كانت متأثرة فكريا بالغرب في التيه، بعد إدراكها وجدانياً وحضورياً، ازدواجية القيم والمنظومة الغربية، وشعارات حقوق الإنسان، وعدم فاعلية المؤسسات الدولية عندما تكون الحرب في ساحة الإنسان العربي والمسلم، فتتلقفها رياح الأفكار، بين يمين متطرف ويسار متطرف، أي بين إفراط وتفريط.
فكما استطاعت المقاومة امتلاك القدرة على توظيف إمكاناتها في ضرب نقاط الضعف العسكرية في الكيان الصهيوني رغم فارق القوة المادي، يمكن لبيئة المقاومة ولكل من يؤيد خيار المقاومة لمواجهة الاستعمار بكافة أشكاله، أن يحول الإرادة والقدرة مع فارق الإمكانيات والأدوات والوسائل، يحولها إلى قوة قادرة على إعادة بناء المفاهيم ومنظومة القيم والمعايير بعيدا عن المنظومة الغربية، التي بدأت تغرق في وحل ازدواجية المعايير، والتأويل المفرط لصالحها الخاص مهما ارْتُكِب من مجازر وتدمير من قبل الكيان الصهيوني، على حساب حيوات البشر ومستقبلهم، لمجرد أنهم وفق معاييرها لا ينطبق عليهم مفهوم الإنسان كمصاديق له، وهذا بذاته يتطلب وضع رؤية نظرية، وتطبيقية آنية للمعركة، واستراتيجية لما بعدها، وقد نفرد له ورقة خاصة قريباً.
الخنادق