سبر أغوار شخصية سيد المقاومة في مؤتمر “مدرسة نصر الله” الدولي
21 سبتمبر
لم يخبُ وهج الحزن على رحيل حامل لواء المقاومة العظيم، رغم مرور ما يربو على أربعين يوماً على استشهاد السيد حسن نصر الله، فلا يزال ألم الفقد يعتصر قلوب عشاق مدرسة الجهاد والنضال، والملايين من محبي هذا العالِم الرباني الزاهد.
وها هي مراسم التكريم والإجلال لهذا المجاهد الصلب، تُقام في شتى أرجاء جغرافيا المقاومة، لتؤكد أن الراية التي حملها سيد المقاومة ستظل خفاقةً، وأن درب النضال سيبقى عامراً بالسالكين، مزدحماً بالمجاهدين.
وعلى الرغم من أن السيد حسن قد كرَّس الجزء الأعظم من حياته الثمينة في ميادين الجهاد والكفاح، وأن الصورة الغالبة عنه في الأذهان ترتبط بسماته القيادية الفذة وخطاباته الحماسية وإدارته الاستراتيجية للمعارك، إلا أن المقربين منه يكشفون النقاب عن جوانب أخرى مشرقة من شخصيته وأبعاده الروحية والإنسانية، التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي.
في هذا السياق، يأتي انعقاد الملتقى الدولي “مدرسة نصر الله” في قاعة مؤتمرات القمم الإسلامية بطهران، إحياءً لذكرى أربعينية استشهاد قائد حزب الله اللبناني، ويشهد هذا المحفل الفكري مشاركة نخبة من المفكرين والعلماء والشخصيات المرموقة من 13 دولة، تشمل لبنان والعراق والبحرين ومصر والكويت وتركيا والهند وماليزيا والجزائر وتونس، لاستجلاء الدور المحوري والمكانة السامية التي تبوأها السيد حسن نصر الله في العالم الإسلامي.
وتتمحور أعمال هذا الملتقى الفكري حول سبر أغوار الأبعاد الفكرية والمعرفية المتعددة لشخصية الشهيد نصر الله، بهدف استخلاص نموذج قيادي ملهم، واستشراف ملامح القيادة المستقبلية لمسيرة المقاومة.
في افتتاحية هذا الملتقى، تمّ بثّ رسائل مرئية للشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، والسيد نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني، في إشارة جليّة إلى العناية الفائقة التي توليها المقاومة اللبنانية لعقد مثل هذه الندوات، حتى في ذروة الصراع الملحمي مع الکيان الصهيوني.
وفي افتتاح كلمته، أشار السيد إيماني بور، رئيس منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية في إيران، إلى أنّ الغاية السامية من وراء إقامة هذا المحفل، هي تسديد دين الوفاء لشخصيةٍ استثنائيةٍ، كانت مآثرها الخفية تتجاوز مناقبها المشهودة.
وأكّد أن “الإشادة بالشهيد الغالي السيد حسن نصر الله هي إشادةٌ بسائر شهداء المقاومة الأبرار، من الشهيد القائد قاسم سليماني إلى الشهيد هنية، والشهيد يحيی السنوار، والشهيد العظيم السيد هاشم صفي الدين والشهيد نيلفروشان، وكوكبة الشهداء الميامين من أبناء الحرية والنضال”.
ومن جهته، أحيا السيد محمد باقر قاليباف، رئيس مجلس الشورى الإيراني، ذكرى الشهيد الخالد نصر الله، قائلاً: “كان السيد حسن نصر الله علَماً شامخاً من أعلام الطائفة الشيعية، لكنه كان أيضاً رمزاً أصيلاً للوحدة الحقّة القائمة على أساس المصالح العليا للأمة، وبصفته زعيماً حكيماً لحزب الله، لم يزعم البتة أنّ ملحمة طوفان الأقصی هي معركة فلسطينية أو سنّية فحسب، بل رآها قضية الأمة والمقاومة والإنسانية برمّتها، وقدّم روحه الطاهرة فداءً لمبادئ المقاومة”.
وشدّد على أنّ “نصر الله لم يكن ينظر إلى حزب الله كمجرد تشكيل عسكري، بل ارتقى به إلى آفاق رحبة، وصاغه كمنظومة اجتماعية متكاملة، مع الحفاظ على قدراته الدفاعية الراسخة وتنميتها، حتى غدا لاعباً محورياً في المعادلات الاستراتيجية لمنطقة غرب آسيا”.
ونوّه رئيس البرلمان الإيراني إلى أنّ الكيان الصهيوني انفضح حتى في اغتيال السيد حسن نصر الله، مؤكداً: “أنّ الصهاينة المجرمين باتوا اليوم يدركون معنى عبارة “رويداً رويداً”، وأضحوا يتلوّون ألماً حتى النخاع من وقع الضربات الساحقة التي يسدّدها حزب الله لهم بعد استشهاد قائدهم”، واعتبر أنّ السيد حسن نصر الله ورفاقه هم ضمانة السلام والاستقرار في غرب آسيا، بل وفي العالم بأسره، مضيفاً: “لو كانت أمريكا تبتغي السلام لغرب آسيا حقاً، لكان حريّاً بها أن تكبح سعار كلبها المسعور”.
الدور الفريد للسيد نصر الله في المقاومة
في مشهد مهيب، كرّس غالبية المتحدثين في هذا المحفل الرفيع، جانباً ملموساً من خطاباتهم لاستعراض الخصال الفريدة والسمات الجوهرية التي ميزت شخصية الشهيد نصر الله.
وفي هذا السياق المفعم بالإجلال، استهل السيد عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، كلمته بالقول: “نلتئم اليوم في هذا المقام الجليل لنحيي ذكرى الشهيد السيد حسن نصر الله، ذلك القائد الفذ والصرح الشامخ للمقاومة، إنه لشخصية استثنائية تجاوزت حدود لبنان، لتصبح أيقونةً للمقاومة والبسالة والثبات في وجه الجور والعدوان، ليس للعالم الإسلامي فحسب، بل لكل الشعوب التواقة للحرية.
إن رحيله يمثّل فقداناً جسيماً للمنطقة والعالم أجمع، بيد أن نهجه ورؤاه ستظل حيةً، متجذرةً في ضمير الأمة، لقد نجح الشهيد نصر الله، بشجاعته التي لا تضاهى، في صياغة مفهوم جديد ومتفرد للمقاومة، مستمداً جوهره من إيمانه الراسخ والتزامه اللامتناهي بقيم العدالة والإنسانية”.
وأردف عراقجي في کلمته: “لقد برز السيد حسن نصر الله كقائد طليعي لا يعرف الكلل، استطاع أن يُحدث تحولات جذرية في معادلات المنطقة بأكملها، ففي خضم عالمنا المعاصر، حيث تتسم العلاقات الدولية بتعقيدات متزايدة وأبعاد متشعبة، تمكن الشهيد نصر الله، بفضل رؤيته الثاقبة للعلاقات الدولية وفهمه العميق لموازين القوى، من تحويل المقاومة إلى عنصر محوري ومؤثر في المعادلات الإقليمية والعالمية على حد سواء، لقد قدّم لنا درساً بليغاً في كيفية المقاومة والتقدم والتأثير دون الارتهان للقوى العظمى”.
واختتم عراقجي كلمته بالتأكيد على أن أثر دماء الشهيد نصر الله، سيكون أعمق وأبعد مدى من تأثير السيد حسن نصر الله ذاته، حيث قال: “إن مسيرة المقاومة والصمود في وجه الظلم والعدوان، ستمضي قدماً بعزيمة لا تلين، وستواصل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، انطلاقاً من مبادئها الراسخة وقيمها الأصيلة، ومستلهمةً روح الشهداء العظام أمثال نصر الله، دعمها اللامحدود للمقاومة والشعوب المستضعفة في المنطقة.
إن دماء الشهيد هي الضمانة الحقيقية لنصرنا المؤزر، وهي البوصلة التي ترشدنا نحو مستقبل أكثر إشراقاً وعدالةً، فليس سلاح المقاومة الحقيقي في الصواريخ أو الطائرات المسيرة أو غيرها من العتاد العسكري، بل إن سلاحها الأمضى يكمن في دماء شهدائها الزكية”.
نصر الله: قامة سياسية وعسكرية استثنائية
في حين تداولت الأوساط العامة اسم نصر الله كقائد عسكري بارز، يقدّم المقربون منه صورةً أكثر عمقاً وشمولاً لسيد المقاومة، إذ يصفونه بأنه شخصية فريدة تجمع في نسيجها المتفرد مزيجاً متناغماً من الكفاءات العسكرية والسياسية والروحانية.
وفي هذا المضمار، أدلى وزير الثقافة الإيراني، عباس صالحي أميري، خلال المؤتمر بشهادة عميقة حول مآثر الشهيد نصر الله، حيث قال: “تجلت في شخصية الشهيد نصر الله قدرات تحليلية فذة وعمق فكري استثنائي، وإلى جانب تميزه المنقطع النظير في هذا المجال، برع كشخصية ميدانية عملية – وهو مزيج يندر أن يجتمع في شخص واحد، فحين يحلّل كان في القمة، وحين يعمل كان في الذروة، والأكثر تميزاً أنه جمع بين كونه سياسياً محنكاً على الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية، وقائداً عسكرياً فذاً، وإن قلة نادرة من تجتمع فيهم هاتان الخصلتان، وكان السيد حسن أحد هؤلاء النوادر”.
أما السيد محمد جواد ظريف، نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، فقد أضاف بعداً آخر في شهادته خلال المؤتمر عن جهاد الشهيد نصر الله، قائلاً: “لقد جسّد السيد حسن نصر الله امتداداً مشرقاً لمسيرة المقاومة في وجه الكيان الصهيوني المحتل، المتجبر وسافك دماء الأبرياء، مسيرة تعمدت بدماء شهداء عظام، وتواصلت بكوكبة من الشهداء الأفذاذ أمثال قاسم سليماني وإسماعيل هنية ويحيى السنوار وغيرهم من شهداء العصر”.
وأكد ظريف على ضرورة صون نقاء مسار المقاومة من التشويه، مشدداً: “أن نصر الله وشهداء فلسطين قد ارتقوا شهداء في سبيل المقاومة ضد الاحتلال والعدوان والإرهاب المنظم، ولن تنال المجازر من عزيمة المقاومين في مواصلة دربهم النضالي ضد العدو الغاشم”.
نصر الله: عملاق التاريخ وأيقونة المقاومة
في مشهد مهيب يليق بعظمة الحدث، انعقد المؤتمر الدولي “مدرسة نصر الله” بحضور نخبة من الشخصيات البارزة، الإيرانية والأجنبية على حد سواء، ليسطروا بكلماتهم ملحمة المجد والفخار.
حيث أدلى العلاّمة الشيخ عبد اللطيف الهميم، المفكر العراقي، بتصريحاتٍ تنمّ عن عمق إدراكه لمكانة الشهيد نصر الله في مسيرة المقاومة، قائلاً: إنه لشرفٌ لا يُضاهى أن أتواجد في كنف محور المقاومة، بين قامات شامخة من القادة العظام.
لقد كان الشهيد نصر الله من أولئك العباقرة النادرين الذين لا يجود بهم الزمان إلا كل قرن من الزمان، إنه أيقونة المقاومة التي ستظل محفورةً في ذاكرة الأجيال القادمة، وسيبقى عبق دماء الشهداء الزكية، يفوح على مرّ العصور، وإن معركتنا ليست محصورةً في غزة أو لبنان أو العراق أو طهران أو اليمن، بل هي ملحمة الحق في مواجهة الباطل، نحن نشهد تحولاً تاريخياً فارقاً يضاهي في أهميته الحربين العالميتين وانهيار جدار برلين.
إن انعقاد هذا المحفل الدولي الرفيع ليؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن نهج المقاومة ماضٍ في طريقه بعزيمةٍ لا تلين، وأن اغتيال قادتها وزعمائها لن يثني عزمها في مواجهة الکيان الصهيوني، لقد راهن الكيان على أن اغتيال نصر الله سيؤدي إلى تصدع بنيان حزب الله وضمان أمن مستوطنيه، بيد أن هذه الجريمة النكراء أتت بنتائج عكسية تماماً، فمع تنصيب أمين عام جديد، تصاعدت وتيرة العمليات ضد الأراضي المحتلة بشكل غير مسبوق، ما أفضى إلى نزوح عشرات الآلاف من المستوطنين، مذعورين من الضربات الصاروخية والمسيّرة التي يشنها حزب الله.
إن المقولة الشهيرة “البعيد عن العين بعيد عن القلب” قد تنطبق على قادة الاحتلال، إلا أنها لا تسري بأي حال من الأحوال على شهداء المقاومة الأبرار، فدماؤهم الطاهرة تضخّ حياةً جديدةً في شرايين الشعوب الحرة في المنطقة، وعلى النقيض مما تصوره قادة تل أبيب، فإن استشهاد قادة المقاومة قد عرّف العالم بحياتهم البسيطة والفريدة في آن واحد، وقوّض الصورة المشوهة التي سعى الصهاينة جاهدين لترسيخها في الأذهان، ولعل المظاهرات الحاشدة المناهضة للصهيونية في عواصم الغرب، لخير دليل على ذلك.
إن المقاومة ضد الظلم والاحتلال ليست وليدة اللحظة، بل هي متجذرة في أعماق التاريخ، وكلما قدمت المزيد من الشهداء، ازدادت صلابةً ورسوخاً يوماً بعد يوم، وها هو الكيان الصهيوني المدجج بأحدث الأسلحة والمدعوم من قوى الاستكبار الغربي، يقف مشلولاً أمام فصائل المقاومة، يبحث عن مخرج من هذا المستنقع الذي أوقع نفسه فيه بحماقته وغطرسته.