ما هي الأهمية الاستراتيجية للسواحل السورية؟

لم يكد ينقضي سوى ثلاثة أشهر على انهيار حكم بشار الأسد واستيلاء هيئة تحرير الشام على زمام الأمور، حتى بدأت شرارات المقاومة المسلحة تتصاعد ضد الحكام الجدد في دمشق، متناميةً بوتيرة متسارعة في أرجاء البلاد كافةً.
فعقب المواجهات العسكرية الضارية بين الدروز والفصائل المسلحة تحت راية تحرير الشام، امتد لهيب الانتفاضة المسلحة في الآونة الأخيرة ليشمل المحافظات الساحلية السورية، مفضياً إلى صدامات دامية في تلك المناطق وإزهاق أرواح المدنيين على نطاق واسع، ولا سيما من أبناء الطائفة العلوية، على أيدي العناصر التكفيرية المنضوية تحت لواء حكومة الجولاني.
وتفيد المصادر الإعلامية العربية، في طليعتها قناة الميادين، بأن القوات الأمنية والمجموعات شبه العسكرية التابعة لتحرير الشام، تشنّ هجمات كاسحة مستخدمةً الأسلحة الثقيلة على المدن والقرى في المناطق الساحلية، وتمارس القتل والتطهير العرقي بحق المعارضين، وفي مقدمتهم العلويون.
وبينما تتكاثر الشواهد على ممارسة التعذيب وسقوط حصيلة مروعة من الضحايا المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، في غمار هجمات العناصر المرتبطة بحكومة الجولاني، تسعى قيادات تحرير الشام جاهدةً للتستر على الفظائع الجديدة التي يرتكبها التكفيريون، ناسبةً القتلى إلى “فلول نظام الأسد”.
غير أن اندلاع شرارة التحركات المناهضة لتحرير الشام من المحافظات الساحلية السورية، ومجابهة حكومة الجولاني لهذه الانتفاضة المسلحة عبر إطلاق العنان للتكفيريين لممارسة سياسة التطهير العرقي ضد المناطق ذات الغالبية العلوية، قد أماط اللثام مجدداً عن الأهمية الاستراتيجية الفائقة للمحافظات الساحلية السورية.
ونظراً لامتداد الشواطئ المتوسطية السورية على مسافة تناهز مئة وثمانين كيلومتراً على امتداد الساحل، تُعدّ المحافظات الغربية بمثابة الشريان الحيوي الذي يصل سوريا بالعالم الخارجي، وتكتسي هذه السواحل أهميةً اقتصاديةً وسياسيةً بالغةً، لاحتوائها على موانئ ذات شأن عظيم كاللاذقية وطرطوس، التي تضطلع بدور محوري في حركة التجارة الإقليمية والدولية للبلاد.
وقد مثّلت السواحل السورية، قبل سقوط الأسد، محوراً لحضور القوى الإقليمية والدولية المساندة له كروسيا وإيران، وبالتالي أضحت ميداناً للتنافس الجيوسياسي المحموم.
أما على الصعيد الديموغرافي، فتحتضن السواحل السورية فسيفساءً بشريةً متنوعةً تشمل العلويين والسنة والمسيحيين، ما أفضى إلى تشكل نسيج اجتماعي واقتصادي متشابك الخيوط، ورغم أن هذه البقعة لم تتعرض إبان سنوات الحرب الأهلية لويلات الدمار الشامل الذي طال مناطق أخرى، إلا أنها لم تنأ بنفسها تماماً عن التداعيات والآثار الاقتصادية والسياسية الوخيمة للحرب، إذ تأثرت بصورة عميقة بتدفق اللاجئين والتدخلات العسكرية والعقوبات الاقتصادية.
الموقع الجغرافي: شريان استراتيجي على ضفاف المتوسط
تمتد السواحل السورية على مسافة مئة وثمانين كيلومتراً من محافظة طرطوس في الجنوب إلى “رأس الباسط” في الشمال، مشكّلةً الشريط الساحلي الغربي لسوريا في محافظتي اللاذقية وطرطوس.
تتربع هذه المنطقة على موقع استراتيجي فريد على صفحة البحر المتوسط وتضمّ حواضر كبرى مثل “اللاذقية” و”طرطوس”، فضلاً عن موانئ في “جبلة” و”بانياس”، وتتاخم السواحل السورية تركيا من الناحية الشمالية ولبنان من الجهة الجنوبية، بينما تجاورها محافظتا “حمص” و”حماة” من الشرق، وتمتد عبر سهل ضيق يمتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
الأهمية الاقتصادية: شريان الحياة التجارية
مثّلت السواحل السورية على الدوام العمود الفقري لاقتصاد البلاد، ومحور ازدهار تجارتها البحرية، ويتصدر “ميناء اللاذقية” قائمة الموانئ التجارية السورية على البحر المتوسط، يليه “ميناء طرطوس” كثاني أكبر ميناء في البلاد.
يختص ميناء اللاذقية بأنشطة تجارية متنوعة تشمل تصدير المنتجات الزراعية (خاصةً الحمضيات والفواكه) والمواد الخام والنفط، ويمثل المركز الرئيسي لنقل الحاويات والتبادل التجاري البحري السوري.
أما ميناء طرطوس، فذاع صيته بدوره المحوري في تصدير الحبوب والبضائع العامة واستيراد مستلزمات البلاد، وكان قبل اندلاع أوار الحرب مرکزاً کبيراً لنقل مخزونات القمح والمواد الاستراتيجية.
وإلى جانب الموانئ، تزخر السواحل الغربية السورية بمناطق صناعية ذات شأن، يتربع على عرشها مصفاة نفط “بانياس” التي تناهز طاقتها الإنتاجية ما بين تسعين ومئة ألف برميل من النفط الخام يومياً، وتمدّ المشتقات النفطية للسواحل والمناطق الغربية.
كما تنتشر محطات توليد الكهرباء المرتبطة بالمصفاة، والمجمعات الصناعية مثل مصانع الأسمدة في “جبلة”، والمواقع السياحية المتناثرة على امتداد الشريط الساحلي، التي كانت قبل عام 2011 قبلةً للسياح ومنبعاً مهماً للدخل السياحي.
وتتبوأ هذه السواحل مكانةً اقتصاديةً مرموقةً بفضل تربتها الخصبة ومناخها المعتدل، الذي يهيئ بيئةً مثاليةً لاستنبات الحمضيات والزيتون والخضروات على نطاق واسع، وتتوج اللاذقية عاصمةً للحمضيات في سوريا، والمركز التقليدي لتصديرها عبر مينائها العريق إلى الأسواق الخارجية، وحتى في أتون الحرب، ظلت عجلة الأنشطة التجارية والاقتصادية تدور بوتيرة طبيعية نسبياً، بفضل الدفاع المستميت للجيش في عهد بشار الأسد عن هذا الميناء الحيوي، ووجود حلفاء سوريا كإيران وروسيا.
غير أن السواحل السورية لم تسلم كلياً من ويلات الحرب، فعقب انهيار الاقتصاد جراء الحرب، وبسبب المخاطر الأمنية المحدقة وما نجم عنها من إغلاق للعديد من خطوط الشحن البحري الدولية، تراجعت حركة الملاحة في ميناء اللاذقية، كما اعترى قطاع السياحة الساحلية ركوداً عميقاً، بيد أن دور الموانئ الساحلية تعاظم خلال الحرب كـ”معابر حيوية” لواردات سوريا، في ظل تعطل المنافذ البرية مع العراق والأردن وتركيا.
التركيبة السكانية: فسيفساء بشرية متنوعة
تتبوأ المحافظتان الساحليتان (اللاذقية وطرطوس) المرتبة الثانية من حيث الكثافة السكانية بعد محافظة دمشق، وتتمثل أهم موارد رزق قاطنيها في استثمار الفرص المتاحة في قطاعات الزراعة وصيد الأسماك والتجارة والسياحة.
وتحتضن السواحل السورية نسيجاً ديموغرافياً متنوعاً، يشكّل العرب العلويون غالبيته العظمى، وتتناثر قراهم في سفوح جبال اللاذقية وطرطوس، غير أن الوجود السني في هذه الحواضر لا يستهان به، كما يتخذ المسيحيون، ولا سيما الأرثوذكس اليونانيون والكاثوليك، من بعض بلداتها مستقراً لهم، وتشير التقديرات قبل اندلاع شرارة الحرب، إلى أن محافظة طرطوس ذات غالبية علوية ساحقة (تناهز الثمانين بالمئة)، في حين تتسم محافظة اللاذقية بتنوع ديموغرافي أكبر، حيث يمثل العلويون زهاء نصف سكانها، والباقي من السنة والمسيحيين.
الأهمية السياسية
اضطلعت المدن الساحلية بدور بالغ الأهمية في مسيرة سوريا التاريخية، وخاصةً إبان فترة الحرب، من المنظور الأمني، فعلى الرغم من استعار أوار الحرب، ظلت المنطقة الساحلية في الشمال الغربي السوري بمنأى إلى حد بعيد عن الخراب والعنف المستشري الذي اجتاح مناطق أخرى، ووفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة “فريدريش إيبرت”، أفضت الحرب إلى عزل الساحل والعديد من التجمعات العلوية عن سائر المناطق، غير أنها أتاحت في المقابل الفرصة لأبناء السواحل لتطوير منظومة الحكم المحلي في هذه البقعة.
ولهذا السبب، تحولت المدن الساحلية فيما بعد إلى ملاذات آمنة لمئات الآلاف من النازحين الفارين من أتون الحرب، وقد أسهم ذلك في إعلاء الأهمية الاستراتيجية للساحل في نظر نظام الأسد، حتى غدت المناطق الساحلية مركزاً لوجستياً وعسكرياً بالغ الأهمية للنظام، ونُقلت الوحدات العسكرية إلى هذه المناطق.
ومن التدابير الأخرى التي اتخذتها حكومة بشار الأسد فيما يتصل بسواحل البلاد خلال الحرب، حماية الممرات البرية الساحلية كالطرق المفضية إلى مدينتي “حماة” و”حمص”.
وبذلت حكومة الأسد مساعي حثيثة لتأمين هذه المناطق وصون قواعدها من شبح الحصار، ولعل أجلى دليل على الأهمية الاستراتيجية القصوى للسواحل، هو أن حكومة بشار الأسد استنجدت بحلفائها الدوليين كروسيا للمؤازرة العسكرية في حماية البنى التحتية العسكرية والتحصينات الساحلية، لصدّ قوات المعارضة عن أرياف اللاذقية في عام 2015، وعقب ذلك، وسّعت موسكو نطاق وجودها في سوريا، ولا سيما في المناطق الساحلية، بصورة غير مسبوقة.
شيدت روسيا في عام 2015 قاعدة “حميميم” الجوية في الجنوب الشرقي من اللاذقية بالقرب من مطار “باسل الأسد” في “جبلة”، لتكون محوراً لعملياتها العسكرية في مساندة دمشق، وتتربع قاعدتا “طرطوس” و”حميميم” على عرش أهم القواعد العسكرية الروسية في الأراضي السورية.