الجنائية الدولية… كيف تحولت عقوبات ترامب إلى عاصفة دعم دولي ؟
![](https://www.21sep.net/wp-content/uploads/2025/02/66-2-780x470.jpg)
في خطوة أثارت جدلاً دوليًا واسعًا، وافق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على فرض عقوبات اقتصادية واسعة على موظفي المحكمة الجنائية الدولية، إضافة إلى حظر سفرهم إلى الولايات المتحدة، جاءت هذه العقوبات في سياق تصعيد واضح ضد المحكمة، التي كانت قد أصدرت مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، على خلفية الحرب في غزة والانتهاكات الجسيمة التي رافقتها.
أثار هذا القرار انتقادات واسعة، إذ عبرت مجموعة من 79 دولة في بيان مشترك عن “دعمها الراسخ” للمحكمة الجنائية الدولية، مؤكدةً استقلالها وحيادها ونزاهتها، وجاء في البيان أن المحكمة تشكل ركيزة أساسية لنظام العدل الدولي، من خلال ضمان المساءلة عن الجرائم الدولية الكبرى وتحقيق العدالة للضحايا.
ورغم أن الدول الموقعة على البيان تمثل نحو ثلثي أعضاء المحكمة البالغ عددهم 125، إلا أن غياب بعض الدول، مثل أستراليا وجمهورية التشيك والمجر وإيطاليا، أثار تساؤلات حول مدى التزام المجتمع الدولي بدعم المحكمة في وجه الضغوط الأمريكية.
من جهتها ندّدت الجنائية ومقرّها لاهاي بمرسوم الرئيس الأمريكي “الذي يهدف إلى “فرض عقوبات على موظّفيها والإضرار بعملها القضائي المستقل والمحايد”.
وجاء في بيان صادر عنها أن “المحكمة تقف بحزم وراء موظّفيها وتلتزم مواصلة إحقاق العدالة وإعطاء الأمل من جديد لملايين الضحايا الأبرياء الذين عانوا فظائع في العالم، في كلّ القضايا التي ترفع إليها”.
رئيسة المحكمة توموكو أكانيه رأت أن العقوبات “هجوم خطر” على النظام العالمي
وقالت في بيان إنّ “مثل هكذا تهديدات وتدابير قسرية تشكّل هجمات خطرة على الدول الأطراف في المحكمة، وعلى النظام العالمي القائم على سيادة القانون، وعلى ملايين الضحايا”.
خلفية العقوبات ودوافع ترامب
منذ بداية رئاسته، أظهر ترامب عداءً واضحًا للمحكمة الجنائية الدولية، متذرعًا بأنها تسعى إلى استهداف الولايات المتحدة وحلفائها، وعلى رأسهم “إسرائيل”، ولم يكن قراره بفرض العقوبات مفاجئًا، وخاصة في ضوء سياسته الداعمة بلا تحفظ لـ”إسرائيل” ونتنياهو تحديدًا.
في عام 2018، قررت إدارة ترامب الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، بحجة أنها تمثل تهديدًا للسيادة الأمريكية، وخاصة مع سعيها للتحقيق في جرائم حرب محتملة ارتكبها جنود أمريكيون في أفغانستان، وجاء انسحاب ترامب متزامنًا مع تصعيد المحكمة لتحقيقاتها في جرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، ما اعتبره خطوة استباقية لحماية حلفائه.
وبعد إصدار المحكمة مذكرة اعتقال بحق نتنياهو، تحرك ترامب بسرعة لحماية الأخير، مستغلًا سلطته لفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة، وصرح رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، أحد أبرز حلفاء ترامب، بأن هذه العقوبات تعكس “رياحًا جديدة تهب في السياسة الدولية”، مشيرًا إلى عزم بلاده إعادة تقييم علاقتها بالمحكمة الجنائية الدولية.
تداعيات العقوبات على المحكمة والعدالة الدولية
أثار فرض العقوبات قلقًا عالميًا بشأن قدرة المحكمة على مواصلة عملها، وخاصة أنها تعتمد على التعاون الدولي لضمان تنفيذ مذكرات الاعتقال وتحقيق العدالة، وقد عبر رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف عن أسفه للقرار الأمريكي، مشيرًا إلى أنه قد يجعل عمل المحكمة “شديد الصعوبة وربما مستحيلاً في مناطق معينة”.
من جانبه، ندد المستشار الألماني أولاف شولتس بالعقوبات، معتبرًا أنها تهدد مؤسسة “تهدف إلى منع الطغاة من اضطهاد الشعوب وبدء الحروب”، مشددًا على أن العقوبات هي “أداة خاطئة”.
أما المحكمة الجنائية الدولية، فقد أكدت في بيان رسمي أنها “تقف بحزم إلى جانب موظفيها”، وتعهدت بمواصلة تحقيق العدالة رغم التحديات، وذكرت مصادر في لاهاي أن المحكمة اتخذت إجراءات وقائية، مثل دفع رواتب الموظفين مسبقًا، تحسبًا لأي قيود مالية قد تفرضها واشنطن.
العقوبات وتأثيرها المباشر
تشمل العقوبات الأمريكية تجميد أصول المسؤولين المعنيين في الولايات المتحدة ومنعهم وعائلاتهم من دخولها، ولم يتضح بعد مدى السرعة التي ستُنفذ بها هذه العقوبات، لكن سابقة فرضها في عام 2020 ضد المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا وكبار مساعديها، تشير إلى إمكانية تطبيقها سريعًا.
ولم يكن ترامب الوحيد الذي استهدف المحكمة؛ فقد قامت روسيا، بعد إصدار المحكمة مذكرة اعتقال بحق الرئيس فلاديمير بوتين عام 2023 بسبب جرائم حرب في أوكرانيا، بحظر دخول المدعي العام للمحكمة كريم خان ووضعه مع اثنين من قضاتها على قائمة المطلوبين لديها.
ردود فعل المجتمع الدولي
في مقابل الضغوط الأمريكية، بادرت مجموعة من الدول إلى تأكيد دعمها للمحكمة الجنائية الدولية، فقد وقعت 79 دولة على بيان يدين العقوبات، منها فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة، وهولندا، بالإضافة إلى الدول العربية الأعضاء في المحكمة، مثل الأردن، تونس، فلسطين، وجزر القمر.
فيما أعربت الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان رافينا شامداساني “عن الأسف الشديد إزاء العقوبات الفردية التي أُعلنت في حقّ موظّفي المحكمة ودعت إلى الرجوع عن هذا التدبير”.
أما المستشار الألماني أولاف شولتس، فاعتبر أن ترامب أخطأ في فرض عقوبات على الجنائية الدولية، لأنها تهدد مؤسسة مهمة.
وأضاف في تجمع انتخابي “العقوبات أداة خاطئة، إنها تهدد المؤسسة التي من المفترض أن تضمن عدم قدرة المستبدين في هذا العالم على اضطهاد الشعوب وبدء الحروب، وهو أمر مهم للغاية”.
في حين قال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: إن بريطانيا تدعم استقلالية المحكمة الجنائية الدولية ولا تعتزم فرض عقوبات على مسؤوليها، وحذّر المجلس الأوروبي من أن هذه العقوبات قد تهدّد استقلالية الهيئة.
وأكّد ناطق باسم الاتحاد الأوروبي أن الكتلة “تأسف” للقرار الأمريكي، محتفظة بإمكان اتخاذ إجراءات خاصة بها، من دون تقديم تفاصيل، وأضاف إن المحكمة “تؤدي دورا حيويا في الحفاظ على العدالة الجنائية الدولية ومكافحة الإفلات من العقاب”، بما في ذلك في أوكرانيا.
وأكد البيان أن العقوبات تهدد استقلال المحكمة وتقوض قدرتها على تحقيق العدالة، كما أنها تعزز الإفلات من العقاب لمن يرتكبون أخطر الجرائم، وأشارت الدول الموقعة إلى أنها ستواصل دعم المحكمة لضمان استمرار عملها بفعالية واستقلالية.
ختام القول
تكشف هذه العقوبات عن ازدواجية المعايير في السياسة الأمريكية، حيث تستخدم واشنطن العقوبات كأداة ضغط عندما تتعارض القرارات الدولية مع مصالحها أو مصالح حلفائها، كما أن تحرك ترامب لحماية نتنياهو يعكس مدى عمق التحالف بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، إلى درجة التدخل المباشر في عمل مؤسسات العدالة الدولية.
إن العقوبات الأمريكية على المحكمة الجنائية الدولية ليست مجرد استهداف لمؤسسة قضائية، بل هي رسالة واضحة بأن واشنطن لن تتردد في استخدام قوتها الاقتصادية والسياسية لحماية حلفائها، حتى لو كان ذلك على حساب العدالة الدولية ومبدأ عدم الإفلات من العقاب، ومع تصاعد التوترات العالمية، تبقى المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة اختبار حقيقي لاستقلاليتها وقدرتها على الصمود أمام الضغوط السياسية.