اخبار دولية وعربيةالعرض في السلايدرتقارير

تفرُّد وإقصاء في الداخل وتدخلات من الخارج… سورية إلى أين؟

علي عبادي

تواجه سورية أوضاعاً دقيقة في ظل التوترات الجديدة الناجمة عما يُنظر إليه على أنه ممارسات تفرّد وإقصاء تصبغ أداء السلطة الجديدة في دمشق في طريقة إدارتها لشؤون الدولة والمجتمع، مع ملاحظة استمرار الاحتلالات الأجنبية وكثرة “الطبّاخين” الإقليميين والدوليين الذين تهافتوا إلى العاصمة السورية لتقديم شروطهم للانفتاح على الحكم الحالي أو لعرض أدوار يمكنهم القيام بها في سورية مستقبلاً.

في غياب أي دستور معمول به، تعيش سورية ما يشبه حالة طوارئ غير معلنة فرضتها “إدارة العمليات العسكرية” بقيادة “هيئة تحرير الشام” (“جبهة النصرة” المصنفة منظمة ارهابية) منذ سيطرتها على دمشق في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ما يسمح لها بتنفيذ سلسلة خطوات تستند إلى “قانون الغلبة”. وفي خطوة مفاجئة تلقي بظلالها على المرحلة الانتقالية المحدَّدة سابقاً بثلاثة أشهر، عقد “قائد الإدارة السورية” أحمد الشرع اجتماعاً للفصائل المسلحة في قصر الشعب بدمشق تقرر فيه أن “يتولى الشرع رئاسة سورية في المرحلة الانتقالية” و”تفويض رئيس الجمهورية بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية إلى حين إقرار دستور دائم”، وفق بيان صدر بعد الاجتماع. كما تقرر “تشكيل مؤسسة أمنية جديدة تحفظ أمن المواطنين”، وإلغاء العمل بدستور سنة 2012، فضلاً عن حل مجلس الشعب والجيش والأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق.

ويعني تعيين الشرع في موقع الرئاسة بصلاحيات واسعة تتضمن تفويضه بتعيين مجلس تشريعي، أن المرحلة ما بعد الانتقالية ستتأثر حكماً بالتدابير التي سيتخذها الشرع والمجلس المعيَّن من قبله في خلال الفترة القريبة المقبلة.

ويظهر مع مرور الوقت أن الإجراءات المتخذة من قبل الإدارة الجديدة تتعدى الصفة المؤقتة إلى استحداث وضع دائم، في حين أن المرحلة الانتقالية القصيرة –كما حددتها الإدارة الجديدة- لا تسمح باتخاذ إجراءات ذات مفعول طويل الأمد، على غرار ما جرى من منح الجنسية لمقاتلين أجانب ووضعهم في مناصب عليا وإجراء تعيينات قضائية وإدارية وإقصاء آلاف الموظفين وتعديل المناهج التعليمية وغيرها. وبدلاً من ذلك، يفترض منطق الأمور أن الخطوة الأولى المناطة بأي سلطة جديدة غير منتخبة ينبغي أن تتركز على التحاور مع ممثلي المجتمع المحلي والتحضير لمؤتمر وطني وإعداد دستور جديد وإجراء انتخابات عامة.

واقترح حقوقيون سوريون اعتماد دستور عام 1950 لتسيير الأمور القانونية في البلاد إلى أن يتم اعتماد دستور دائم، علماً أن دستور 1950 صاغه رجال قانون وسياسيون معروفون في تلك المرحلة. لكن “الهيئة” لجأت إلى أسهل الطرق وهو بسط سيطرتها على مناحي الدولة، مستفيدة من “غضّ نظر” دولي مشوب بالغموض لترسيخ سلطتها، من دون وجود أي ضمانة واضحة حتى الآن لتوفير انتقال للسلطة من “الهيئة” إلى حكومة منتخبة.

وأعلن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني مؤسس “جبهة النصرة” المصنفة منظمة ارهابية) في مقابلته الأولى مع فضائية عربية في 29 كانون الأول/ ديسمبر الماضي أن “إعداد دستور جديد للبلاد قد يستغرق نحو 3 سنوات، وتنظيم الانتخابات قد يتطلب 4 سنوات”، مبرراً ذلك بالحاجة إلى “إحصاء سكاني شامل، وهذا يتطلب وقتاً”. في حين اعتبرت جهات عدة ومنها رئيس “الائتلاف الوطني السوري” هادي البحرة أن كتابة دستور جديد يجب ألا تستغرق أكثر من عام، إذ إن هناك فصولاً جاهزة في الدستور.

بوادر قلق

على الرغم من مظاهر الانفتاح الذي أبدته “هيئة تحرير الشام” على الحريات العامة وعلى الأقليات بعد وصولها إلى السلطة، فإن الممارسات التي تمت حتى الآن أدت إلى انبثاق قلق عام حيال مسار الوضع الراهن.

وتُدرج أوساط سورية أبرز مؤشرات هذا القلق على الصورة الآتية:

1- استمرار عمليات الخطف والاعتقال والتصفية خارج إطار القانون، ووجود مجموعات وميليشيات مسلحة تمارس مهام أمنية واستفزازات وتعديات، لا سيما في مناطق اللاذقية وريف حمص، بعد مرور أكثر من شهر ونصف على تسلّم “الهيئة” الحكم في دمشق. وآخر هذه الممارسات ما جرى في قرية فاحل بريف حمص الغربي، حيث تمت تصفية 16 شخصاً بعد اختطافهم. وتلقي السلطة في دمشق المسؤولية على عاتق مجموعات متفلتة ومجرمين، بينما تبررها جهات غير رسمية بدوافع انتقام من ممارسات النظام السابق. ويشير “لقاء التشاور الوطني”، وهو لقاء يعرّف عن نفسه بأنه “يمثل حالة وطنية سورية جامعة ويحمل الثوابت الوطنية السورية ضد الوصاية والتبعية والاحتلال”، إلى استمرار “عمليات خطف واعتقال وتصفية شخصيات علمية وأكاديمية وفكرية”.

2- تباطؤ في معالجة ملف المعتقلين العسكريين. ومعلوم أن عدداً كبيراً من الضباط والجنود في الجيش السوري سلّموا انفسهم للسلطة الجديدة، بعد تلقيهم ضمانات أمنية وبقي مصير أكثرهم مجهولاً. وتم الإفراج عن دفعة منهم قبل أيام، بعد طول انتظار.

3- حلّ قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية، ما أدى إلى فراغ أمني من جهة، وزيادة مشكلة البطالة من جهة أخرى. وكان يمكن الاستعانة بذوي الخبرة والمسلكيات الجيدة من العناصر الشرطية للقيام بالمهام الأمنية.

4- الممارسة الطائفية في الإقصاء من أجهزة الدولة. فقد تمت إقالة عدد كبير من الموظفين أو توقيف رواتبهم بحجة وجود توظيفات وهمية، وأغلب الذين تمت إقالتهم أو حرمانهم من الرواتب موظفون محسوبون على النظام السابق أو الطائفة العلوية. ولهذا الإجراء تبعات اجتماعية صعبة، لا سيما في ضوء الظروف المعيشية التي يرزح السوريون تحتها، حيث تبلغ قيمة الحدّ الأدنى للأجور ما يعادل نحو 20 دولاراً. والجدير بالذكر أن المجتمع العلوي في مجمله تقبّل التغيير ولم يقاومه، وهذا ساعد الإدارة الجديدة على ترسيخ سلطتها. وطالب “لقاء التشاور الوطني” في بيان له بتاريخ في 23-1-2025، من وصفها بـ “سلطة الأمر الواقع” إلى “التوقف عن ممارسة سياسة الإقصاء انطلاقاً من عقلية المهزوم والمنتصر، ودعا إلى سياسة تشاركية على أساس وطني محض”. كما دعا إلى “نبذ التحريض الطائفي والسياسي واعتماد التسامح والتكاتف، وتأجيل البتّ بكل القضايا التي يمكن أن تتسبب بعواقب سلبية على شرائح واسعة من المجتمع السوري إلى حين تشكيل حكومة وحدة وطنية، بما في ذلك القرارات الأخيرة المتعلقة بفصل الموظفين، وحجب رواتب شرائح من المتقاعدين، وغيرها”.

5- تعيين خريجي كلية الشريعة المقربين من الإدارة الجديدة قضاةً عوضاً عن الحقوقيين، وتوزيع المناصب على رفاق أحمد الشرع وحلفائه. وثمة من يرى أن “ترفيع الشرع لمقاتلين ومنحهم رتباً عسكرية وهم من غير الجنسية السورية “أوزبكستان – تركيا – الأردن، إلخ”، لا ينذر بأن بناء الجيش الوطني القادم سيكون على أسس سليمة”.

6- وجود مناطق سيطرة عدة في البلاد. فإلى جانب مفاوضات جرت بين الفصائل المسلحة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” لحل تلك الفصائل وإلحاق مقاتليها بوزارة الدفاع، وهو ما قد يعني استمرار وجود روابط بين أولئك المقاتلين وقياداتهم السابقة، تبقى هناك مجموعات مسلحة تابعة لغرفة عمليات الجنوب بقيادة أحمد العودة الذي يشار الى أنه قريب من الإمارات، وقوات “جيش سوريا الحرة” (“مغاوير الثورة” سابقاً) التي يسلّحها ويمولّها الاحتلال الأميركي في منطقة التنف على الحدود السورية- الأردنية، وقوات “قسد” التي يقودها الأكراد بدعم أميركي مباشر. وتبدو المفاوضات متعثرة أو بطيئة على صعيد البتّ في مستقبل هاتين القوتين بانتظار ما سيتخذه الرئيس الأميركي الجديد من توجهات بشأن سورية.

7- غياب الحوار مع ممثلي المجتمع. يُؤخذ على السلطة الجديدة أنها منهمكة في الإمساك بمفاصل البلاد أكثر من اهتمامها بحيازة شرعية شعبية وقانونية. وفي هذا الإطار، يركز الإعلام على استقبال أحمد الشرع ممثلي دول عربية وأجنبية أكثر من لقائه بممثلي الفئات الوطنية.

8- الوضع الاقتصادي الصعب الناتج عن الحرب الطويلة والحصار الأميركي. يتطلب هذا الوضع حل مشكلات الشعب التموينية والمعيشية، وتقديمه على قضايا يمكن تأجيلها. وفي حال تطورت الأمور نحو الأسوأ، قد يدفع ذلك المواطنين السوريين خلال الشهور المقبلة إلى التحرك للمطالبة بتحسين ظروفهم الاقتصادية والخدمية، وهذا سيشكل تحدياً للسلطة الجديدة في دمشق.

9- تعديل المناهج الدراسية. ترتكز هذه التعديلات إلى رؤى ضيقة تعتبر الكثير من المفاهيم الوطنية والعصرية متعارضة مع الإسلام. وكان يمكن تأجيل النظر بهذه العملية وتركها لحكومة منتخبة تحظى بشرعية معترف بها، ما يشير مرة أخرى إلى وجود عجلة لدى الإدارة الحاكمة للسيطرة على مناحي الحياة العامة من دون تحمّل انتظار الوصول إلى مرحلة الحل السياسي الدائم.

انسجام أم استئثار؟

تعكس جميع المؤشرات السابقة وجود اتجاه لتكوين سلطة من لون واحد، أشبه بنظام الحزب الواحد والرجل الواحد، بحيث تم استبدال حزب البعث بـ”هيئة تحرير الشام”، ومنحَ رئيس الإدارة الحالية أحمد الشرع نفسه صلاحيات غير محدودة لاتخاذ خطوات تتعلق بمستقبل السوريين من دون وجود آلية تشاورية واضحة، وكل ذلك بدعوى الحاجة إلى وجود “انسجام” في أعلى هرم السلطة. ويلقي ذلك بظلاله على مستقبل المرحلة الانتقالية ومصير المؤتمر الوطني الذي لم تتحدد كيفية اختيار أعضائه ولا آلية تسيير أموره.

وتطرح وقائع الوضع السوري الراهن مخاوف من أن استمرار ممارسات الاستئثار والانتقام قد يفضي إلى تعزيز اتجاه خافت حتى الآن يطالب بالحماية الدولية، وهو ما يعني فتح البلاد أمام تدخلات أجنبية أكبر. هذا في وقت تلتزم السلطة في دمشق بالمهادنة مع احتلال “إسرائيلي” في الجنوب (محافظتي درعا والقنيطرة) واحتلال أميركي في الشرق (محافظتي الحسكة ودير الزور)، إضافة إلى احتلال تركي في الشمال (محافظتي حلب وإدلب) وصل مؤخراً إلى بعض أنحاء ريف اللاذقية، حيث ذُكر أنه تم رفع العلم التركي على دوائر رسمية بحجة التحرك لحماية الأقليات.

كما يُخشى أن يأتي إهمال المطالبة بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي على أراضي سورية من أجل الحصول على اعتراف دولي بالإدارة الجديدة في دمشق ومحاولة اجتذاب استثمارات خارجية، على حساب استعادة سورية سيادتها على أرضها. وقد يؤدي هذا الواقع إلى تكريس التدخلات الأجنبية بعدما أصبحت أمراً واقعاً ومن ثم تحقيق مكاسب “جيوسياسية” بعيدة المدى للأطراف الإقليمية والدولية المعنية على حساب وحدة هذا البلد.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com