اخبار دولية وعربيةاخبار محليةالعرض في السلايدرتقارير

عام التحولات الدراماتيكية وليس الحسم

ايهاب شوقي

من البديهي أن التحولات الإستراتيجية الكبرى والمفاصل التاريخية لا تقاس بالشهور ولا حتى بالأعوام، بل تكون محصلة لتراكمات وتفاعلات وديناميات طويلة ومعقدة، ولذلك من النادر تاريخيًا أن يوصف عام بأنه عام التحولات، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك أحداثاً قد لاتستغرق ساعات ويصلح لوصف انعكاساتها وتداعياتها بأنها انقلابات إستراتيجية، وهو ما شهده العام 2024 الذي يستعد للرحيل، بعد أن شهد عدة حوادث ومستجدات بلورت العديد من التراكمات والملفات المؤجل حسمها، بما يجعله عامًا للتحولات الإستراتيجية بامتياز تاريخي كبير.

ومن المعتاد علميًا عند تحليل أحداث عام من الأعوام لاستشراف عام جديد، أن يتم التركيز على ملفات بعينها، تشمل الاقتصاد العالمي ووضعه واتجاهاته وتوقعاته، وكذلك حالة الصراعات وتطوراتها وانعكاساتها على التوقعات الجيوسياسية والإستراتيجية، ويركز بعض المراقبين على حالة المناخ والتغيرات بما لذلك من انعكاسات اقتصادية عبر استخدام الطاقة والتركيز على أنواع منها، وكذلك الأوضاع التكنولوجية ولا سيما بعد تعاظم ظاهرة الذكاء الاصطناعي وانعكاساته على الوظائف وعلى التجارة والصناعة والمجالات العسكرية، كما يهتم الكثيرون، وخاصة في الغرب بحال الديمقراطية وصعود وهبوط القوى السياسية المختلفة.

لكن العام 2024 فرض اهتمامات أعمق بسبب تداخل الصراعين الدولي والإقليمي في “الشرق الأوسط” ومحاولات الفرض القسري لنظام دولي جديد بعيدًا عن شبح هدد الغرب والولايات المتحدة تم عنونته بالنظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب، وهو ما أدى لاستنفار الغرب مجتمعاً وبكامل قوته بقيادة أمريكية، لقطع الطريق على هذا المخاض واستبداله بتمكين جديد للهيمنة، وكان “الشرق الأوسط” وشرق أوربا أبرز مسرحين لهذه المعركة وأبرز مربعين لرقعة الشطرنج العالمية.

وقبل الخوض في تفاصيل أبرز الحوادث والتغيرات الإستراتيجية، ينبغي القول، إن الحرب في منطقتنا لم تضع أوزارها بعد، وإن ما يعلنه الكيان الصهيوني بغطرسة من نصر موهوم، هو استعجال واستباق لنتيجة الصراع الذي لم تنته مفاعيله، حيث تحتفظ المقاومة بعقيدتها الراسخة في الصمود ورفض الذلة، وبقدراتها ولم تقل كلمتها النهائية بعد.

أولاً على المستوى الاقتصادي:

رغم التقارير الاقتصادية التي قالت، إن الاقتصاد العالمي استطاع تفادي الركود وإنه باتجاه نمو في العام الجديد 2025، فإن زيادة الأسعار كانت الظاهرة الأبرز في العام 2024 والتي أثرت في الانتخابات الرئاسية التي غطت معظم دول العالم، حيث اشتهر العام 2024 بأنه “العام الأم” لجميع سنوات الانتخابات.

فقد عقدت نحو ثمانين دولة تمثل أربعة مليارات نسمة انتخابات وطنية أو إقليمية أو محلية، وهذه الانتخابات شهدت معاقبة الناخبين في جميع أنحاء العالم للسلطات، مثل ما حدث للأحزاب المهيمنة منذ فترة طويلة في الهند واليابان وجنوب إفريقيا وأماكن أخرى، والتي فقدت مقاعد ووجدت نفسها بدلاً من ذلك في حكومات ائتلافية.

وكانت الظاهرة الأبرز في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وصعود اليمين في الانتخابات البرلمانية الأوربية، وكذلك انهيار الائتلاف الحاكم في ألمانيا بعد أن فشلت أحزابه المكونة في الانتخابات الإقليمية في سبتمبر.

وقد فسر المزاج العالمي المناهض للحكم الحالي بعدم الرضا عن حالة الاقتصاد، كما أظهرت استطلاعات الرأي أيضاً خيبة أمل أوسع نطاقاً من السياسات الديمقراطية ورغبة في وجود زعماء أقوياء قادرين على مواجهة النخب السياسية.

وشهدت منطقتنا مزيدًا من تدهور مستوى المعيشة بحكم الارتهان لصندوق النقد وشروطه في الدول التي ربطت اقتصادها بإصلاحات صندوق النقد المزعومة، وكذلك بفعل استمرار الحصار على المقاومات وبفعل استمرار الحروب، وهو ما أدلى بدلوه في المناخ السياسي في صورة اضطرابات وعدم اكتراث بالمخاطر الإقليمية على المستويات الشعبية، وهو ما ينذر بالمزيد في العام الجديد وخاصة مع نذر استهداف دول كمصر والأردن ودول الخليج، إما بهدف الضغط لانتزاع مزيد من التنازلات، وإما بهدف تغيير كلي لشكل الأنظمة على غرار النموذج السوري، والذي لعب الملف الاقتصادي دوراً كبيرًا في إضعاف وحصار نظامه والتعجيل بسقوطه.

ومع وصول شخص كالرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحكم الولايات المتحدة والمعروف بإجراءاته الحمائية وسياسة “أميركا أولاً”، وحربه الاقتصادية مع الصين، فإن الخبراء يتوقعون مزيدًا من تراجع التعاون الدولي وسلاسل التوريد ومزيدًا من الحروب التجارية.

ومع التغيرات التي حدثت في منطقتنا قد يعجل ذلك بمشروعات كانت مؤجلة، مثل خط الغاز القطري التركي والذي يضعف ورقة الضغط الروسية في أوربا المعتمدة على الغاز الروسي، وكذلك مشروع الممر الهندي ومحاولة استغلال الظروف للتعجيل بتدشين مشروعات تطبيع إقليمية مع العدو الإسرائيلي.

على المستوى السياسي:

بعد الانتهاكات الصهيونية للقانون الدولي وتفاقم حرب الإبادة منذ بداية العام إلى الآن، فإن القانون الدولي بات في وضع حرج، وكذلك الاحتماء بالاتفاقيات الدولية والقرارات الأممية لم يعد كافيًا لطمأنة الدول، وهو ما انعكس على ملفات سياسية كانت تلتزم بالقانون الدولي والمعاهدات، فحدثت سوابق في عديد من الدول تحت وطأة سيطرة شريعة الغاب، تمثلت في تخلي الغرب عن قيم الديمقراطية التي تقنَّع بها، مثلما حدث في قمع التظاهرات المؤيدة لفلسطين في أميركا ودول أوربا، وكذلك الهجوم على محكمة دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية وتهديد قضاتها بعد إصدار قرارات باعتقال نتنياهو ووزير الحرب الصهيوني، وكذلك تشجعت الدول التي كانت تخشى من فزاعة الديمقراطية وأقدمت على إجراءات قمعية، ولعل ما حدث في كوريا الجنوبية سابقة كبيرة في هذا السياق، ناهيك عن دول المنطقة.

كما شهدت معظم الدول صعوداً لليمين ولأصحاب الخطاب الشعبوي في عودة لأجواء مشابهة لاجواء الحرب العالمية.

ومع صعود شخص ديماغوجي مثل ترامب لقيادة أكبر دولة بالعالم، يتوقع أن تشهد الدول صعوداً لهذا الخطاب وللقوى اليمينية، ومزيدًا من الاستبداد والقمع، ومزيدًا من انتهاك الاتفاقيات الدولية، مما ينذر بفوضى في الدول الاستبدادية الهشة في منطقتنا وإجراءات معادية للمهاجرين والعرب والمسلمين في أوروبا.

ولا شك أن الهجوم الاقتصادي والسياسي على التكتلات الناشئة مثل البريكس، قد يعظم من إجراءات التنسيق بين هذه الدول، وخاصة الدول التي تشن أميركا عليها حرباً اقتصادية وسياسية وعسكرية مثل روسيا والصين وإيران، بينما قد تخضع دول أخرى لإغراءات أمريكية وتنسلخ عن هذه التجمعات مثل الهند والإمارات.

على مستوى الذكاء الاصطناعي:

يشكل هذا المحور تطورًا خطيرًا ولافتاً لتداخله مع المستويات الاقتصادية والعسكرية، وصعوبة تداوله بين دول العالم لاعتبارات حاجته للطاقة وللتكنولوجيا الخاصة مما يوسع الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، ناهيك عن تطبيقاته التي تؤثر في اقتصادات الدول، حيث زيادة نسب البطالة، وكذلك زيادة أسهم شركات محدودة في العالم تمتلك تقنياته وهو ما يعبث بميزان التوازن الاقتصادي، وتشير التوقعات لدور بارز لشخص مثل “آيلون ماسك” والمعروف بعلاقته الوثيقة بالرئيس ترامب، وما قد يقدمه ذلك من مساعدات لترامب في سياساته وحروبه التجارية.

على المستويات الإستراتيجية:

لعل أبرز صراعين حالياً ويتوقف عليهما مستقبل الصراع الدولي برمته، هو الصراع في أوكرانيا والصراع في المنطقة وما يخطط له من مشروع للشرق الأوسط الجديد.

وقد شهد هذا العام أحداثاً دراماتيكية في الصراع مع الصهاينة وهو ما يؤكد صوابية مقولة الشهيد الكبير السيد حسن نصر الله/ من أن هذه الحرب سيتوقف عليها مستقبل المنطقة في الفترة القادمة.

ولعل تعجل نتنياهو بإعلان النصر والكشف عن مشروع الشرق الأوسط الجديد قد جاء مباشرة بعد جريمة اغتيال الشهيد الكبير، ظناً من نتنياهو بأنه تخلص من العدو الأكبر للصهاينة وأنه بهذه الجريمة قد حقق النصر، وهو وهم كبير سرعان ما استفاق منه بعد الصمود الأسطوري لمقاتلي حزب الله على الجبهة وإفشالهم للحرب البرية واحتلال قرى الجنوب، وبعد استهداف العمق الصهيوني بالصواريخ والمسيرات النوعية، والأهم كان ادخار أسلحة إستراتيجية لم تستخدمها المقاومة في لبنان حتى الآن.

ولعل التمادي في الخروقات كان استغلالًا لوقف إطلاق النار ومحاولة تحقيق خروقات بوقف النار لم يستطع تحقيقها بالمواجهة مع صناديد المقاومة.

ووقف إطلاق النار في لبنان قبلت به المقاومة حماية للبنان وشعبه من جميع الفئات ولكيلا تتحمل مسؤولية الدمار والإجرام الأمريكي الذي يمد الصهاينة بالذخائر وآلة التدمير، ولوضع الدولة والجيش اللبناني أمام مسؤولياتهما وإثبات أن العدو الغاشم يهدف للعدوان بمعزل عن تصعيد المقاومة أو التهدئة والقبول بوقف إطلاق النار ولإثبات صوابية خيار المقاومة باعتباره الخيار الوحيد الذي يحمي السيادة مع عدو لا يعترف ولا يحترم الاتفاقيات.

وقد استغلت أمريكا وتركيا الإنهاك الذي وصلت إليه الدولة السورية في إعادة الكرة لإسقاط النظام السوري، ونجحت في إيصال الفصائل التي حاربت النظام طوال العقد الماضي للسلطة، وهو ما تم توظيفه صهيونياً بشكل مباشر عبر انتهاك اتفاقيات فض الاشتباك والتوغل في الأراضي السورية واحتلال الأراضي ومحاولة التواصل مع قطاعات من الأقليات لخلق مشروع احتلال وتقسيم لسورية ولقطع طرق إمداد المقاومة في لبنان وإحكام الحصار عليه.

لقد شهد العام 2024 جرائم اغتيال كبرى لقادة تاريخيين في محور المقاومة، على رأسهم الشهيد الكبير السيد حسن نصر الله، والشهيدان إسماعيل هنية ويحيي السنوار، وهو ما شكل ضربة معنوية لمحور المقاومة، ولكنها لم تكن ضربة قاصمة للصمود ولا لاستمرار المقاومة.

كما شهد العام سقوط النظام السوري وهو قلب ومركز تواصل المحور، ولكن جميع الخطابات الصادرة من إيران ولبنان واليمن والعراق كانت ملأى بالتحدي وبالإصرار على خيار المقاومة ورفض المساومات والتنازلات.

كما شهد العام تعاظم قدرات اليمن وبروزها كلاعب إقليمي لا يخشى الكيان ولا أميركا ولا بريطانيا، واستطاع تطوير الصواريخ فرط الصوتية لمستويات وصلت إلى 16 ماخ، وهو ما شكل عجزًا لمنظومات الدفاع الصهيونية والأميركية على السواء، كما استهدف حاملات الطائرات الأمريكية وجعل وجودها بالمنطقة غير آمن، وهو إسقاط للردع الصهيوني والأمريكي.
وشهد العام اعتراف الصهاينة بالجرائم والاغتيالات على لسان وزير الحرب الجديد وهو يلوح باغتيالات جديدة في اليمن وتهديد بقطع الرؤوس الكبيرة في المقاومة اليمنية.

لا شك أن افتقاد روسيا لمركزها الجيوستراتيجي في سورية سيعمق تركيزها في أوكرانيا وتصبح المعركة في شرق أوربا وجودية لا تقبل الهزيمة وصولاً للخيارات النووية.

كما أن تضحيات محور المقاومة والمكتسبات التي حققها على مدى كفاح عقود ستكون عصية على التنازل والتفريط بها، ولا سيما أن بيئة المقاومة ملتفة حول قياداتها ولم ينفرط عقدها كما خطط العدو.

ولا شك أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، فانتصار العدو يعني إفناء المقاومة واحتلال وابتلاع غزة والضفة وتوسيع مساحة الكيان والقضاء على ثقافة المقاومة، وهو أمر لا يزال بعيد المنال بلحاظ احتفاظ المقاومة ببيئتها وقدراتها وعدم توقيع أي اتفاقيات للاستسلام على غرار الاتفاقيات التاريخية الكارثية التي أخرجت الأنظمة من الصراع مثل كامب ديفيد وأخواتها، فاليمن يقاتل ويصعد والمقاومة في غزة مستمرة، وحزب الله في حالة وقف مؤقت لإطلاق النار وليس اتفاقيات مع كيان لم، ولن تعترف به المقاومات والمعركة لا تزال قائمة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com