مقالات

هنا الضاحية.. بعد حرب!

ليلى عماشا

تنهمك الضاحية في نفض غبار العدوان. منذ دخول وقف إطلاق النّار حيّز التنفيذ حتّى الساعة، تراها في ورشة عمل لا تهدأ. بين إزالة الركام وإجراء الإصلاحات الضرورية في شبكات الكهرباء والماء، وكذلك في البيوت والأبنية والمحال التجارية، تعود الضاحية إلى نمطها المعتاد الذي يضجّ بالحياة.

في صبيحة يوم العودة، كان اللقاء بين العائدين ممّن نزحوا ومشهد الدمار مشهدًا مؤثّرًا، يروي حكاية الصلة العميقة بين الناس وضاحيتهم. بدت في ذلك الصبح بهيّة رغم الدمار الكبير، شامخة رغم ما جرى عليها من عدوان وفقد. متعبة ولكن جاهزة لاستقبال واحتواء الأحبّة المثخنين بالشوق وبالحزن. ساعة بعد ساعة، كان المشهد يختلف: عملت الجرافات والآليات على فتح الطرقات التي أُقفلت بركام الأبنية التي دمرتها صواريخ العدو، وبدأ أصحاب المحال التجارية، الصغيرة منها والكبيرة، بلملمة آثار الحرب في إطار التجهيز للعودة إلى العمل. تباعًا، ومنذ اليوم التالي، عدنا نرى هذه المحال في الشياح ومعوّض والغبيري وحارة حريك وبئر العبد وحيّ السلّم وغيرها تستقبل الناس وتؤمّن السلع والبضائع التي يحتاجونها. شيئًا فشيئًا، ازداد عدد المحال التي يعاد افتتاحها وإن بشكل جزئيّ، ومعها ازدادت حركة الناس في الطرقات: تلتقي أعينهم ويتبادلون التبريكات بالسلامة والعودة، وأحيانًا يتبادلون دموع الفقد وتنهيدات الصبر.

الشوارع التي أغرقها العدوان بالعتمة استعادت إنارتها، والبيوت التي أُقفلت بالتهجير فُتحت أبوابها ونوافذها للضوء وللحياة. كلّ تفاصيل الأمكنة بدت كأنّها تتفتّح بعد إغماضة، لتبدو بعد أسبوع على وقف إطلاق النار أقرب إلى نمطها الطبيعيّ المعتاد قبل العدوان: شوارع مزدحمة، بيوت عامرة، أسواق مفتوحة، وصور الشهداء، زينتها وروحها.

إن تمرّ اليوم في الضاحية، في أيّ حيّ من أحيائها، سترى في معظم الأبنية مظاهر “التعزيل” وإصلاح الأضرار والاستعجال في ترميمها قبل دخول الشتاء. وسترى أيضًا انهماك العائلات في استعادة وتيرة حياتها الطبيعية، وإن غلبت الوجوه ملامح الحزن، ففي كلّ شارع، ثمّة بيت شهيد، وفي كلّ حيّ ثمّة عائلة فقدت عزيزًا أو أكثر. وبالمشهد العام، صارت الضاحية كلّها بيت واحد فقد أعزّ فرد فيه، لذا عند كلّ صورة رُفعت للسيّد حسن، تجد أثر دمعة ذرفتها سيّدة مرّت وألقت على صاحب الصورة السلام أو رجل نظر فيها وغلبه البكاء. وعند موقع استشهاده، ترى كلّ أهل الضاحية عائلة واحدة تتحلّق حول رائحة حبيبها، تخاطبه، تشتاقه، وتودّعه.

قبل العدوان، ومنذ زمن بعيد، كان زوّار الضاحية من كلّ لبنان يصفونها بالمكان الذي “يحمل روحًا”. دفءٌ غريب كان يسري في كلّ من يزورها ولو لمرّة، على الرغم من كونها تعرّضت للإهمال الرسميّ المتعمّد على مرّ الأعوام وعلى مختلف الصعد، وعلى الرغم من بساطة أحيائها البعيده كلّ البعد بمعظمها عن مظاهر الترف والفخامة، وكذلك على الرغم من حملات التهميش والتنميط والعزل. حافظت الضاحية على روحها تلك في مواجهة العدوان الهمجيّ الذي لم يستثنِ أيّ حيّ من أحيائها، من السانت تيريز وحي الأمركان والجاموس إلى الغبيري وحارة حريك، ومن الشياح والطيونة إلى الكفاءات والمريجة وبرج البراجنة. فخرائط الإنذارات طوال فترة الحرب غطّت معظم مساحة الضاحية، كما شملت دائرة الاستهداف -الأوسع بكثير من خرائط ونقاط الإنذارات الاستعراضية- حتى أضيق الأزقّة في الضاحية من بابها إلى محرابها.

“هنا الضاحية”.. تأخذ العبارة اليوم بُعدًا مختلفًا، فهنا، مدينة واجهت بحبّات عينيها مخرز العدوان ولم تنكسر. وهنا، بيت كبير ينفض عن زواياه آثار الحرب دون أن يرضى في لحظة بالانكسار أو بالاستسلام لهول الدمار. هنا، أسواق تستعيد عافيتها بسرعة قياسية ودورة حياة ومعيشة تتعافى وتلتئم بعد جرح بليغ. “هنا الضاحية” تعني اليوم أكثر من أيّ زمن مضى، أن هنا مدينة رفعت أجمل أقمارها قرابينَ على مذبح الحقّ، وتعالت فوق جراحها صبرًا كي لا تمنح عدوّها لحظة شماتة أو تشفٍّ.. هنا مدينة فقدت عزيزها الذي أعزّ الأمة كلّها بدمائه، وظلّت واقفة تواجه النّار والهمجية، فانتصرت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com