2024م عام سقوط الردع الأمريكي
21 سبتمبر || تقرير _ ضرار الطيب:
عام كامل انقضى على بدء العمليات البحرية اليمنية المساندة لغزة منذ احتجاز السفينة الإسرائيلية (غالاكسي ليدر) في البحر الأحمر، وبرغم أن العمليات لا زالت مستمرة وقد تصاعدت إلى مستويات لم تكن متوقعة، فإنها قد صنعت بالفعل واقعًا جديدًا ثابتًا لم يعد حتى العدو يستطيع إنكاره، وحققت مكاسب تأريخية لم يعد تقييمها مرهونًا بانتهاء المعركة.
“لقد انتصر الحوثيون، وفشلنا.. إنهم يسيطرون على باب المندب وعاجلًا أم آجلًا سيحالفهم الحظ بقتل الجنود الأمريكيين”.. هكذا كان تعليق القائد السابق للمنطقة المركزية الأمريكية، فرانك ماكنزي، في تصريح ملفت نقله موقع “ميدل إيست آي” البريطاني مؤخرًا، حول الوضع في البحر الأحمر، وهو ليس تعليقًا سياسيًا بل عسكريًا يستند إلى حقائق ميدانية واضحة لم تعد قابلة للتغيير، وبرغم أن الهدف من العمليات البحرية اليمنية ليس _ ولم يكن_ السيطرة على باب المندب أو هزيمة الولايات المتحدة بشكل خاص، فإن ذلك كان من متطلبات الهدف الأساسي المتمثل في الضغط على العدو الصهيوني ورعاته من خلال منع حركتهم الملاحية في المنطقة، إذ لا يمكن تحقيق ذلك بالشكل المطلوب بدون فرض تلك السيطرة وتحقيق الانتصار على الإسناد الأمريكي للعدو الصهيوني، وبالتالي فإن الهدف الأساسي متحقق بتحقق متطلباته.
تأثير العمليات يخرص تكهنات واشنطن
لقد حاول الأمريكيون الالتفاف على هذه الحقيقة من خلال محاولة إثارة الجدل حول تأثير العمليات البحرية اليمنية على واقع المعركة في غزة، وهي مغالطة يمكن الرد عليها بقائمة طويلة من بيانات الخسائر الاقتصادية للعدو الصهيوني، بدءًا بإغلاق ميناء أم الرشراش (إيلات)، وصولًا إلى التداعيات الواسعة المستمرة على أسعار السلع وحركة الاستيراد والتصدير وأرباح الشركات، وهي نتائج تجسد بوضوح الضغط المراد تحقيقه على العدو، من خلال فرض كلفة مباشرة على استمرار الإبادة الجماعية، فلم يقل أحد أن العمليات البحرية هي وحدها من ستتكفل بوقف العدوان على غزة، بل كان المطلوب هو فتح جبهة إسناد تجعل المعركة إقليمية، وهو أمر لم يكن يريده العدو ورعاته الغربيون الذين لجؤوا إلى شن عدوان مباشر على اليمن لمنع ذلك، كونه ينسف خطتهم الاستراتيجية المتمثلة في الانفراد بغزة.
مع ذلك، لا يمكن الادعاء بأن تأثير العمليات البحرية اليمنية انحصر فقط على الكلفة الاقتصادية الباهظة التي يتكبدها العدو، فهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية في البحر، هو ضربة استراتيجية مباشرة لأمن كيان العدو ومستقبله، ولا حاجة لشرح مطول لما تمثله الهيمنة الأمريكية في المنطقة من أهمية أساسية وجوهرية لبقاء واستقرار “إسرائيل”.
وبالتالي، فإن واقع سيطرة القوات المسلحة اليمنية على البحر الأحمر وباب المندب والفشل التأريخي المدوي للولايات المتحدة في وقف العمليات البحرية اليمنية أو الحد منها، ليس نتيجة منفصلة عن هدف إسناد غزة والضغط على العدو الصهيوني، بل إن هذا الواقع يعكس في الواقع نجاحًا كبيرًا لصنعاء في نقل تأثير عمليات الإسناد من المستوى الاقتصادي المباشر إلى المستوى الاستراتيجي الأبعد مدى.
ثالثة الحاملات تهرب
إن انسحاب ثلاث حاملات طائرات أمريكية (آيزنهاور، وروزفلت، ولينكولن) من المنطقة وتعرض اثنتين منها لضربات قبل الانسحاب، وتحول البحر الأحمر إلى منطقة محرمة على هذه القطع الحربية الأمريكية، ليس مكسبًا خارجًا عن سقف هدف إسناد غزة، بل إنه رفع هذا السقف ليتجاوز المرحلة الراهنة ويمتد إلى مستقبل الصراع بأكمله، فتواجد القطع الحربية الأمريكية في المنطقة وبالذات حاملة الطائرات كان يمثل إسنادًا أمريكيًا هائلًا للعدو الصهيوني سواء على مستوى المعركة في غزة نفسها، أو على مستوى التحكم برد الفعل الإقليمي تجاه جرائم العدو، وبإلغاء هذا الإسناد من واقع المواجهة الحالية وأي مواجهات مستقبلية، يعتبر فجوة أمنية وعسكرية كبيرة وغير مسبوقة لن يستطيع العدو ملأها، فهذه القطع لا يتم إرسالها فقط لحماية السفن “الإسرائيلية” بل لفرض واقع سياسي وعسكري وأمني إقليمي يضمن بقاء كيان الاحتلال.
عندما تتحدث مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية عن “انتهاء زمن حاملات الطائرات” بسبب العمليات اليمنية، ويعترف وكيل مشتريات البنتاغون بأن اليمن أصبح مخيفًا وينتج آلاف الصواريخ البالستية بتقنيات لا تملكها إلا دول متقدمة محدودة، فإن ذلك يعني أن أمن كيان العدو الصهيوني _المعتمد بشكل رئيسي على الهيمنة الأمريكية التي تعتبر البحرية من أهم مفاعيلها_ أصبح معرضًا لخطر غير مسبوق في التأريخ، وهو معطى لن يكون بإمكان العدو تجاهله أبدًا في واقعه وخططه، وقد عبرت العديد من التقارير العبرية والمسؤولون الصهاينة، وكان آخرهم رئيس بلدية إيلات، عن خطورة بقاء التهديد اليمني بعد هذه الحرب.
لقد حرصت الكثير من وسائل الإعلام الغربية هذا الأسبوع على تسليط الضوء على ذكرى مرور عام كامل على بدء العمليات البحرية المساندة لغزة؛ باعتبارها محطة تأريخية فارقة وغير مسبوقة في واقع المنطقة والعالم، سواء على المستوى الاقتصادي من حيث التغيير الذي فرضته تلك العمليات على حركة التجارة البحرية، أو على المستوى العسكري فيما يتعلق بالفشل المدوي وغير المسبوق للولايات المتحدة والغرب في كبح جماح ذلك التغيير، والسقوط الصاخب والفاضح لمعادلات الردع التقليدية التي أسست أمريكا عليها سمعتها كقوة عظمى، وهذا له انعكاس مباشر على أمن ومستقبل الكيان الصهيوني الذي يعتمد بشكل استراتيجي على النظام الذي قام اليمن بتغييره.
إن سقوط الردع الأمريكي في البحر الأحمر، ليس حدثًا عاديًا، وليس هامشًا على الصراع مع العدو الصهيوني، وحتى التداعيات الموجهة بشكل مباشر على الولايات المتحدة، مثل “تزعزع الشعور الزائف بالأمن لدى الأمريكيين” بحسب وصف مجلة ناشيونال إنترست قبل أيام، أو المناقشات التي بدأت بالظهور بشأن المأزق الذي ستواجهه واشنطن في أي مواجهة بحرية قادمة مع منافسين مثل الصين، ليست بعيدة الصلة عن واقع الصراع مع العدو الصهيوني، فأي هزة أمنية أو عسكرية للولايات المتحدة هي بالضرورة هزة لـ”إسرائيل” التي تجد نفسها مع مرور الوقت تتكئ على قوة تزداد هشاشة وتفقد سطوتها شيئًا فشيئًا.
وما يزيد تأثير هذه الهزة أن الأمر لم يقتصر على سقوط الردع الأمريكي الذي يعتمد عليه كيان العدو، بل كان هناك في المقابل، وبطبيعة الحال، صعود قوي وصادم لقوة بحرية جديدة في المنطقة، أثبتت قدرتها على التدخل بشكل مؤثر وفعال في وقت الحاجة، وبما يفرض واقعًا مزعجًا جدًا على العدو في أي مواجهة، وهو أمر سيجعل كل مخططاته ناقصة إذا لم تكن فيها مساحة دائمة للتعامل مع التهديد اليمني على بعد 2000 كيلو متر، وهي فجوة استراتيجية ثابتة، خصوصًا أنه لن يستطيع أن يملأ تلك المساحة بأي خيارات فعالة.