الانهزاميون ينتشون بفائض الحرب والتدمير
علي عوباني
مجبولون بطين الذل والانكسار، يطالعوننا بتوهين الانتصار.. يقفون خلف شاشاتهم ينظرون، ويحددون مقاييس الهزيمة والنصر وفق أجنداتهم، دون أن يفقهوا من علم العسكر شيئًا.. لم يحملوا بندقية في وجه المحتل يومًا.. ولم يبدلوا بدلة الغرافات بالزي المرقط.. لم يتشرفوا بخدمة العلم اللبناني.. مجرد أبواق مأجورة ينفخ فيها العدو لتيئيس وتثبيط معنويات اللبنانيين.. باعت نفسها ووطنها لمن يدفع أكثر ولم تأبه لمشاعر بيئة مجاهدة فرضت عليها الضرورات الدفاع عن نفسها.
إنعاش ذاكرة المثبطين لربما يوقظهم من أوهامهم ويوعيهم على مصالح وطنهم ويضع حدًا لطموحاتهم الجامحة والدنيئة التي يبنونها دومًا على حساب دماء شعبهم العنيد.. للخلف نعيدهم، إلى ٧٦ عامًا في أول يوم لتأسيس الكيان الغاصب الذي سعى حتى قبل أن يوطد قدمه في فلسطين للتوسع تجاه لبنان ومعركة المالكية بقيادة الشهيد الملازم محمد زغيب كانت أولى لبنات المقاومة والدفاع عن أرض الوطن بوجه تهديدات الكيان الذي زرعه الغرب في منطقتنا، ومجزرتي صلحا وحولا اللتين ذهب ضحيتهما عشرات الشهداء كانت أولى الشواهد على إجرام عصابات العدو على الأرض اللبنانية.
لم تعمر طويلاً هدنة الـ٤٩ رغم إجحافها بحق لبنان وقبول الأخير بها.. سرعان ما امتطاها العدو لتحقيق مآربه التوسعية فعاود العدوان وارتكاب المجازر في القرى الحدودية، تحوّل لبنان حينذاك لقمة سائغة إلى حد التهديد باجتياحه بالفرقة الموسيقية، وكان واضحًا أن حدود نهر الليطاني الذي تردد اسمه تاريخيًا في كل الحروب التي خاضها جيش العدو على لبنان إلى حد تسمية اجتياح 1978 باسمه هو أحد أبرز المطامع التوسعية للكيان المستحدث في لبنان، وما زال هذا الاسم يتردد حتى في الحرب القائمة حاليًا.
لم يكن في مرحلة ما قبل الـ١٩٧٥ على الأقل هنالك مقاومة فاعلة لردع العدو ومنعه عن تحقيق أهدافه فكان يسرح ويمرح يجزر ويعتقل ويحتل القرى الأمامية ساعة يشاء ويخرج منها ساعة يشاء. لم يكن هنالك أحزاب المقاومة بعد، ما مكّنه من اجتياح لبنان والوصول في ٦ أيام إلى بيروت، لكن الأزمان تغيرت بعدما أفضى القهر والاضطهاد إلى نشوء حركات مقاومة بدأت بحمل البندقية والتصدي، كانت وطنية وقومية وبعثية وصدرية (حركة أمل) حتى أتى حزب الله وحمل الراية وأكمل المسير، ليقلب صفحات الهزيمة إلى نصر عام ٢٠٠٠ ثم في حرب الـ ٣٣ يومًا في تموز عام ٢٠٠٦.
من يتحدث عن معايير الهزيمة والانتصار لا بد له من التوقف قليلاً وإجراء بعض المقاربات والمقارنات الموضوعية بعيدًا عن الانطباعات والتوجهات السياسية الظالمة والمجحفة والتي كثيرًا ما تكون مبنية على أمنيات ومواقف سلبية مسبقة لا تقرأ تاريخ لبنان مع العدو الغاشم فتكون الخلاصات مبنية على منطلقات ومقدمات خاطئة. ومن هذه المقاربات والمقارنات:
أولاً. انطلقت المقاومة كحاجة وضرورة جراء استفحال العدوان على لبنان ولم يكن غايتها طوال التاريخ سوى مجابهة العدو وردعه والدفاع عن أهل الجنوب والبقاع الذين تركوا لسنوات طوال في فم التنين “الإسرائيلي” دون مساندة حتى من دولتهم الشرعية، فضلاً عن العرب الذين هرولوا للاستسلام.
ثانياً. مذ انطلقت المقاومة لم تدّع يومًا أنها جيش رديف ولم تسعَ لمآرب سلطوية دنيوية، بل كان هدفها واضحًا منذ البدايات وهو مواجهة العدو بالإرادة والعزيمة التي لا تنكسر وبما تيسر لها من إمكانات وفق المعادلة الثلاثية الذهبية جيش وشعب ومقاومة.
ثالثاً. لم تدع المقاومة يومًا أنها تخوض حربًا كلاسيكية تقليدية بل حرب عصابات هدفها إيقاع الخسائر بالعدو ومراكمة الإنجازات بالنقاط ..فهي لم تنجر لمقارنة إمكاناتها مهما بلغت بإمكانات جيش العدو الهائلة ومخزوناته التي لا تنضب من أحدث الأسلحة والتكنولوجيا التي تزوده بها المنظومة الدولية المؤسسة والراعية لهذا الكيان.
رابعاً. تخوض المقاومة حربًا لا متماثلة، مفهوم النصر فيها لا يرتكز على مبدأ الحسم والسحق بل على مبدأ “إيلام العدو” ومنعه من تحقيق أهدافه المرسومة ومن ثم دفعه للتراجع عن عدوانه وتحرير الأرض واحترام سيادة لبنان وأراضيه وبحره وأجوائه.
خامسًا. لو أن المنظومة الدولية المنحازة بطبيعة الحال لـ”إسرائيل” أجبرتها على الانسحاب من لبنان منذ عام 1978 وفقًا للقرار 425 وعلى احترام سيادة لبنان لانتفت حاجة لبنان للمقاومة منذ ذلك الحين، لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ اجتاح العدو لبنان ووصل إلى بيروت غير آبه بالمنظومة الدولية وضرب بعرض الحائط بنحو 110 قرارات دولية.
سادسًا. لو أن السياديين عملوا مع حلفائهم الغربيين منذ ذلك الحين على تعزيز قوة الجيش ومده بأسلحة حديثة لمجابهة الاعتداءات لربما كان بإمكانهم الادعاء اليوم بأنهم حريصون على السيادة، لكنهم لم يفعلوا ذلك بل تركوا لبنان في مهب العواصف الصهيو – أميركية لابتلاعه واستتباعه وكرسوا أنفسهم أدوات في كل المخططات والمؤامرات التي حيكت على لبنان وسورية وسعوا معهم لانتزاع كل نقاط القوة ليس في لبنان بل في المنطقة.
سابعاً. لو أجرينا مقارنة بسيطة بين ما تقوم به المقاومة من صد العدوان البري على لبنان ونحن نقارب الـ ٥٠ يومًا من انطلاقته مع اجتياح لبنان عام 1982 والوصول إلى بيروت في ستة أيام لأمكن لنا أن نفهم على أي أساس نحدد مفهوم النصر والهزيمة وبسهولة مطلقة.
ثامناً. لطالما كان العدو يبادر إلى شن الحروب على لبنان على قاعدة خوضها على أراضي الآخرين وتبقى جبهته الداخلية آمنة بعيدة عن التهديدات، لكنها باتت اليوم في قلب المعركة، وهم يتحدثون عن رعب الشمال ونجاح حزب الله بتحويله إلى حزام أمني بعدما كانت كل الأحزمة الأمنية تقام على أراضينا اللبنانية وآخرها ما سمي بـ”الشريط الحدودي” الذي انسحب منه عام 2000.
تاسعًا. أن يمر 50 يومًا ولا يستطع جيش العدو رغم حشده لما بين 5 إلى 7 فرق قوامها نصف جيشه 65 إلى 70 الفًا على الحدود اللبنانية ولا يستطيع التقدم برًا حتى إلى قرى الحافة الأمامية وإن دخل فبعد تدمير تلك القرى ولأهداف استعراضية لا تقدم ولا تؤخر بمسار المعركة فذلك بحد ذاته هو انتصار بالمنظور العسكري وانتصار معجزة.
عاشرًا. لو عدنا قليلاً إلى عقيدة جيش العدو التي ابتدعها بعد هزيمته في حرب تموز 2006 ولطالما جاهر بها ومفادها أنه لن يشن حربًا إلا إذا تأكد له “النصر الحاسم والسريع” لسألنا اليوم أين هو هذا “النصر الحاسم والسريع”؟ اليوم بعد سنة وشهرين من “طوفان الاقصى” هل تحقق في غزة؟ هل تحقق في لبنان؟ وهل هنالك آمال بتحققه في ظل انقلاب موازين الميدان الواضحة لصالح المقاومة على جميع الجبهات؟
حادي عشر . من المعايير الحاسمة والحازمة في قياس النصر والهزيمة مسألة تحقيق الأهداف، والسؤال هنا ماذا حقق العدو من حربه في غزة ولبنان؟ هل حقق سوى التدمير؟ لكن ماذا عن الأهداف؟ هل قضى على حماس؟ لقد دمر غزة واغتال قادتها، لكن المقاومة بقيت وكل يوم تكبده الخسائر. وفي لبنان دمر وجزر واغتال قادة المقاومة لكن هل استطاع النيل من عزيمة المقاومة وقدراتها التي تثبت في الميدان يومًا بعد يوم أن لها الكلمة الفصل وباتت صواريخها تصل إلى حيفا و”تل أبيب” كل يوم؟
طبعًا لن يرى المثبطون كل الإنجازات التي تحققت لأن وظيفتهم معروفة وأهدافهم واضحة وهي الاستقواء بالحرب لتغيير الواقع السياسي في لبنان حتى يتسنى لهم تحقيق طموحاتهم الهدامة. الغريب، أن هؤلاء أنفسهم كانوا حتى الأمس يرددون عبارة “فائض القوة” لكن الواضح أنهم ينتشون من نفس الكأس المعادي بفائض الحرب والتدمير ويمنون أنفسهم بنجاح نتنياهو في تغيير خارطة الشرق الأوسط حتى يكون لهم مكان في تلك الخارطة ليغيروا وجه لبنان ويعيدونه إلى العصر “الإسرائيلي” وزمن التبعية له للوصول إلى قصر بعبدا على متن “الميركافا” “الإسرائيلية” كما فعلوا سابقًا. لكنهم استعجلوا قطاف الحصرم ونسوا أن في لبنان مقاومة لا تهزم وستحول الجنوب مقبرة للغزاة ودباباتهم ولن يبقى لهم دبابات يعتلونها إلى القصر الرئاسي. لأن زمن الهزائم ولى ودخلنا منذ عام 2000 زمن الانتصارات، والنصر معقود على جباه المقاومين في الـ٢٠٢٤ ولو بعد حين.