ضاحية السيد: مدينة تسكننا!
ليلى عماشا
وصارت الضاحية بيتًا واحدًا، واسعًا، دافئًا بما يكفي لتصبح كلّ الأماكن دونه بردًا عظيمًا… صارت مسقط قلوب أهلها، ووجهة أعينهم منذ أن خرجوا منها كي يعودوا منتصرين.. تلك المدينة التي تضجّ بالحياة ما مسّها من حقد العدوان ضرّ، وإن عزّ على أحبابها بعد المسافة، والأمتار القليلة بعد كثير، لا سيّما حين ترد خريطة العدوان الآتي..
ما الضاحية؟ يتساءل من لا يعرفها عن سرّ الصلة بين المكان وأهله. كيف يمكن لمساحة من أحياء متلاصقة أن تتخذ لها هذا الحيّز من قلوب سكّانها، بحيث تفيض من نظراتهم التماعة الغربة حين يسكنون، ولو مؤقتًا، أيّ مكان سواها؟ كيف لأسماء شوارعها أن تُنطق بهذا النغم السيّال بالحبّ، كأن المرء منهم ينطق باسم ابن مسافر أو صديق غاب أو عزيز مسّه الضرّ؟ ما الذي جعل الوصل بينها وبين ناسها على هذا المقدار من الدّفء، كأنّها حضن أمّ أو كأنّ الحبّ طريقتهم في برّ الوالدة، ولهجتهم في قصّ حكاياها.. حكاياها التي تشكّلت في أحيائها ذاكرتهم؟
حين يُسأل النّازحون من الضاحية عن عنوان سكنهم قبل النّزوح، ترى في خلفية أصواتهم دلالات الأماكن وترجمتها بلغة القلب والذاكرة:
من بئر العبد، محراب اللقاءات الأولى على حبّ المقاومة..
من حارة حريك، درّة تاج الحبّ وحصنه..
من الشيّاح، “ضيعة” المدينة وحارسها الوفيّ..
من الغبيري، حصن صور الشهداء ومسار عودتهم إلى روضتهم الحيّة..
من حيّ ماضي، مهد الطلقات الثمانينية..
من “أوتوستراد السيّد هادي”، ودفء الاسم يكفي..
من اللّيلكي، ولهفات الوجوه إلى بوابة الجامعة..
من الرويس، مسكن الإباء الجميل الجميل..
من المعمورة، حيّ الوفاء المعتّق..
من الكفاءات، دوّار التّعب الجميل..
من المريجة، وداعة البيوت العتيقة ولطف الشجر..
من تحويطة الغدير، ملتقى الشّباب بعد يوم طويل..
من برج البراجنة، التصاق البساطة بفطرة الطيّبين..
من حيّ السّلم، سخاء الفقراء وجودهم بما يملكون..
من الصفير والقائم والجاموس، وشوارع عبق الشهادة..
من حيّ الأمركان وسانت تيريز، فخامة الانتماء والتلاقي الجميل..
ما الضاحية إذًا؟ هي جيرة السيّد، ذاكرة أسياد النّزال ومسار خطوات الشّهداء.. الجدران المثبتة بصور الأحبّة الأقمار، ببسماتهم.. اليافطات التي تشهر الانتماء والعبق الذي يبوح بالهوية.. المقدرة المكانية العالية على الاحتواء، على احتواء حتى أشرس المبغضين.. ضحيج الشوارع.. صوت المآذن.. وطريق السائرين إلى الحسين في المسيرات العاشورائية.. الحبّ إذ يفيض من مجمّع سيد الشهداء (ع) وساحة معوّض.. والتقاء الدّمع الثائر بالحزن الأبيّ في باحة عاشوراء.. الأسواق والمحال التجارية التي يقصدها الكلّ الكلّ.. البيوت المتراصة كإخوة يتراحمون..
لهذا.. لأجل كلّ هذا، يسكب العدوان نار صواريخه فوق الضاحية.. يأتيها من الجوّ منتقمًا، حاقدًا.. يظنّ أن الدمار يكسر عزّتها، فيوغل في غيّه مدمرًا.. يستهدف أبنيتها، حجارتها، شوارعها، حكاياتها كي ينتزعها من قلب ناسها أو يحيلها أرضًا بلا هويّة! ما أقل مداركه! يلتفّ الأهل على جرح ضاحيتهم ضمادًا شافيًا، ويشدّ القهر ناسها إليها.. يجعل ارتباطهم بها وثيقًا أكثر من أيّ زمن مضى.. ويكاد السّامع إن مرّ فيها أو بقربها بين غارتين أن يميّز صوت كلّ أهلها مكثفًا في كلمات المرحومة الحاجّة كاملة سمحات، ذات تمّوز “فِدا المقاومة!”..