غزة تفضح العالم المنافق وقوانين الدولية المدهوسة
21 سبتمبر || تقرير:
الخميس الماضي قال المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك ، “إن المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة يموتون جوعا أمام أعين العالم، والظروف المعيشية مميتة”. عندما تطلق الأمم المتحدة راعية السلام والحقوق ومنظِمة العلاقات الدولية ومظلة العالم، النداء لنجدة أهل غزة بالغذاء، ولا تدعو إلى فعل ينهي هذا الوضع الإنساني المأساوي هناك فإن الأمر يعني بالضرورة وجود خلل ما.
فالأمم المتحدة تدرك أنها أعجز من أن تدعو لتحرك عملي، على الأقل يوقف العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين واللبنانيين، وكأن هناك جهة أكبر منها معنية بهذا الأمر.
في الاتجاه الآخر إذا عبرت أمريكا عن استياءها من أمر يعنيها، تبدأ في الدهاليز الدولية تحركات غير طبيعية تفاعلاً مع هذا التعبير، فأمريكا تبدو أكثر تأثيراً وفاعلية من الأمم المتحدة، وصار دور الأخيرة إما التقييم الحذِر للأحداث وتداعياتها، وإما تقديم الإحصائيات عن القتلى والنازحين ومن هُم بحاجة للماء والغذاء، وإما دعوة المانحين لتقديم المعونات اللازمة، وهذا الانحراف في الدور ليست أمريكا فقط سببُه، وإنما أيضاً المجتمع الدولي الذي تعايش مع هيمنة ما تسمى بالقوة العظمى على مركز القرار الدولي وإفراغه من مضمونه لصالح الإرادة الأمريكية.
خلال الأشهر الماضية أكثر الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن وقيادات أمريكية أخرى الحديث والإشارة إلى ما يُروج له تحت اسم النظام القائم على القواعد وهو نظام بهوية أمريكية تسلطية، فيما تواترت التناولات الفكرية الصحفية التي استهجنت هذا التعامل الأمريكي الفوقي، وعملية الإحلال التي تتعمدها واشنطن بتجاوز القانون الدولي لصالح فرض هذا النظام على العالم، خصوصا وأن هذا القانون لا يزال مجهولاً فلا تُعرف ماهية هذه القواعد بالضبط ولا من يضعها، وهو ما لا يستقيم مع دعوة بايدن إلى أهمية الحفاظ عليها..
يقول ألكسندر جوسيف، مدير المعهد الروسي للتخطيط والتنبؤ الاستراتيجي، إن الولايات المتحدة تتعمد إبقاء تعريف مصطلح “النظام الدولي القائم على القواعد” غامضا، لأنه كلما كانت القواعد المزعومة أقل تحديدا، زادت قدرة الولايات المتحدة على التلاعب بها في أي وقت تشاء.
ويرى وانغ هونغ قانغ، مدير معهد الدراسات الأمريكية التابع للمعاهد الصينية للعلاقات الدولية المعاصرة أنه مع الصعود الجماعي للدول غير الغربية والتطور المستمر للوضع الدولي، تحاول الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون إبطاء المسار نحو عالم متعدد الأقطاب من خلال تسليط الضوء على القواعد الغامضة.
أمريكا كانت دائما شرّ
واليوم يبدو مثيرا للسخرية من يتحدث عن أن أمريكا باصطفافها إلى جانب الكيان الصهيوني فإنها تقف في الجانب الخاطئ، أو أن أمريكا بمواقفها السلبية تجاه الصرع مع العدو الصهيوني صارت معزولة، أو أن الضوء الأخضر الذي منحه الرئيس الأمريكي جو بايدن لكيان العدو الإسرائيلي يشكك في شرعية ما يسمى النظام الدولي القائم على القواعد، وما شابه. والحقيقة أن الموقف الأمريكي العدواني تجاه العالم لم يتبدل يوما كي تصير الآن إلى مثل هذه الأحكام، فمواقفها دائما كانت خاطئة، واستعلاءها جعلها دائما معزولة وغير مرحب بها إلا لدى السعودية والإمارات، ونظام القواعد الذي تحاول فرضه لم يكن يوماً مقبولاً أو معترفا به.
أمريكا التي تتشارك مع الكيان أو العكس، في نفس النهج الدموي وفرض الإرادة عند التعامل مع الدول العربية والإسلامية هي ذاتها الدولة التي قامت على تدمير العالم وقِيَم التكامل وفق مقتضيات التعايش، وذهبت منفردة لتأسيس مركزية العالم وقطبيته إلى حد الجرأة في وضْع القواعد لهذا العالم ولو على حساب ما توافق عليه الجميع من قواعد وقوانين وأعراف دولية ناظمة للعلاقات وحامية للسلم والأمن الدولي.
ازدواجية المعايير لدى أمريكا
وفي القضية المزمنة المتمثلة باستمرار احتلال الكيان الإسرائيلي للأراضي العربية وجولات الإجرام التي ينفذها كل حين، لم يحدث أن وقفت أمريكا ضد أي سلوك لهذا الكيان العُضال، قد تتصنع أحيانا الرفض أو التنبيه في التصريحات، لكنها عمليا تعمل فقط على ترجمة التزامها بالدفاع عن المحتل حسب ما يردد قادة أمريكا ويُترجم ذلك عمليا.
لذلك حتى الحديث عن إزدواحية المعايير يبدو مثيرا للشفقة، فأمريكا في الحال التي هي عليها اليوم، لا تنافق ، لأنها تعمل أصلا وفق منهحيتها ولا تعنيها قوانين العالم. تتمرد على الثوابت وتتناقض بمواقفها بلا خجل في إطار هذه القواعد، ولا يعنيها رفض وانزعاج الآخرين، وأقرب مثَل على ذلك هو إزدواح التعامل مع أوكرانيا وغزة، وهذه مسألة مرصودة وموثقة بالفعل والتعبير، ويكفي لفت الانتباه إلى إدانة الولايات المتحدة لما تقول إنه مهاجمة روسية للبنية الأساسية المدنية في أوكرانيا وتعمُّد تجويع شعب بأكمله بحرمانه من الغذاء والماء والكهرباء والضروريات الأساسية، هذا ما تقوله أمريكا عن ما هو حاصل في أوكرانيا، بينما الأبشع من ذلك هو ما يتعرض له الفلسطينيين واللبنانيين، لكن لا يأتي تصريح أمريكي منتقد لسلوك العدو الإسرائيلي.
هذه الإزدواحية تبدو طبيعية إذا ما استحضرنا أن أمريكا قد وضعت نظامها الخاص للتعامل به مع مختلف القضايا، والكيان الصهيوني هو جزء أصيل في هذه القواعد. إنما المثير هو أن يبقى هذا النظام الذي يعلم به العالم كله ولا يفعل شيئا، يبقى في غُرف اتخاذ القرار، غير معلن، وإنما يمكن فهمه من التحركات الأمريكية وكل تفاعلاتها مع ما يحدث هنا أو هناك، أو حتى من تصريحات قادة أمريكا.
مجاهرة بالسوء
في 25 مارس/آذار، اعتمد 14 عضواً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 2728 الذي يطالب بوقف فوري للحرب في غزة، إلا أن أمريكا امتنعت عن التصويت، وبعد وقت قصير، وصف متحدث باسم إدارة بايدن القرار بأنه “غير ملزم”، في محاولة واضحة لنسف شرعيته وتأثره.
وفيما كان البرلمان الكندي قد أقرّ مقترحا بوقف عمليات نقل الأسلحة الجديدة إلى “إسرائيل”، كما أوصت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة “فرانشيسكا ألبانيز” في اليوم الذي تبنى فيه مجلس الأمن القرار، الدول الأعضاء بفرض حظر على الأسلحة “على الفور” على “إسرائيل” لعدم امتثالها للتدابير الإلزامية التي أمرت بها محكمة العدل الدولية.
في هذا الوقت أوضح المتحدث باسم الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، أن شحنات ومبيعات الأسلحة الأمريكية إلى “إسرائيل” لن تتأثر، بينما لم يجد البيت الأبيض غضاضة في التأكيد، بأنه “لا توجد حوادث من قبل الإسرائيليين تنتهك القانون الإنساني الدولي.”
إجرام بحماية أمريكية
اليوم و”إسرائيل” فد داست على كل قواعد القانون الدولي والمبادئ التي أقرتها المواثيق الدولية، فقتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين، أغلبهم من النساء والأطفال، وشردت وجوّعت مليوني إنسان في غزة وترتكب الجرائم بحق المدنيين في لبنان، فإنها تستند على الدعم الأمريكي المفتوح وبمعنى آخر على هذا النظام الأمريكي القائم على القواعد.
وكنموذج لهذه الحقيقة، فإن الردود الأمريكية والغربية التي برزت على إثر إعلان المدعي العام للجنائية الدولية السعي لاستصدار أوامر اعتقال بحق رئيس “الحكومة الإسرائيلية”، “بنيامين نتنياهو”، و “وزير دفاعه” “يوآف غالانت”، وثم إقرار مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وذلك إذا حققت مع أشخاص محميين من واشنطن أو حلفائها أو حاكمتهم؟!، حتى الرئيس حو بابدن وصف مساعي المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان لإصدار أوامر لإلقاء القبض على مسؤولين إسرائيليين كبار بالـ“مخزية”.
يقول خان : “إن بعض القادة اتصلوا به وأخبروه “أن هذه المحكمة بُنيت لأجل إفريقيا، ولأمثال بوتين”؟!
تقول أنيل شيلين، مسؤولة حقوق الإنسان بوزارة الخارجية المستقيلة: “إن محاولة الدفاع عن حقوق الإنسان أصبحت ببساطة مستحيلة طالما وإن الولايات المتحدة تساعد إسرائيل.”
أمريكا تحاصر العالم بقواعدها
أمريكا كشفت بوضوح طوال القرنين الماضيين عملها على فرض قواعدها كقوانين بديلة عن تلك التي اتفق عليها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ساعدها على ذلك انهيار القطب السوفيتي، فيما لم ترقى القوى الصاعدة بعد، إلى مستوى التأثير، أو هي كما يبدو ليست في وارد الدخول في هذه المنافسة، إلا في مجالات محددة، حتى وإن نافست في امتلاك السلاح، فالصين مثلا وهي تمتلك أيضا السلاح النووي، لا ترغب ف الدخول في حرب باردة ثانية أو حرب تجارية أو تكنلوجية، وروسيا لم تتحرر بعد من الوقوع في مصائد أمريكا، كحال البؤرة الأوكرانية التي لم تخرج منها بعد.
اليوم أمريكا لا تزال تلعب دور شرطي العالم، وتلعب بمضامين التقييمات للأحداث التي يشهدها العالم وفق قواعدها، دون اعتبار لأحد، فيما تلتزم القوى الصاعدة الصمت،
ومن المهم أيضا إدراك أن أمريكا لا تنسف كلياً القانون الدولي ولكنها تتعامل معه بانتقائية عندما يخدم توجهاتها، وقد ترفضه أو تتمرد عليه عندما يتعارض مع هذه التوجهات، فغزو العراق في العام 2003 جاء متحديا ومتجاهلا لكل الاعتراضات الدولية، بل وللقانون الدولي حتى أن بعض الساسة الأمريكيين قالوا حينها “أن القوة الأمريكية قادرة على إنقاذ القانون الدولي من نفسه”، ولم تُواجِه أمريكا بعدها أي عواقب على فعلها المتمرد، وحين نشرت الولايات المتحدة قواتها في شرق سوريا كان الأمر توجه امريكي خالص دون تفويض من الأمم المتحدة أو بدعوة من الرئيس بشار الأسد.
لذلك يتبين من البحث في تاريخ هذا الاصطلاح والتوجه الأمريكي بالاشتغال على نحو أحادي دون احتكام للقانون الدولي، أن بروز هذا المفهوم ومحاولة اشاعته إنما جاء رداً على موجة الرفض الدولي للغزو الأمريكي للعراق عام 2003 أي في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
على أنه في الحرب الروسية الأوكرانية كان التناول أكثر وضوحاً، فالرئيس الأمريكي بايدن اعتبر أن هذه الحرب هي “معركة بين الديمقراطية والاستبداد، وبين الحرية والقمع، وبين النظام القائم على القواعد ونظام تحكمه قوة غاشمة!”، حسب قوله.
وفي الرابع من مارس/آذار 2022، في بروكسل، تحدث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عن هذه القواعد وكأنها أمر مفروغ منه وأن على العالم الالتفاف حولها وحمايتها باعتبارها المنقذ للبشرية، وقال بشأن الحرب الروسية الأوكرانية: “إن النظام الدولي القائم على القواعد، الذي يشكل أهمية بالغة للحفاظ على السلام والأمن، يتعرض للاختبار بسبب غزو روسيا غير المبرر لأوكرانيا”.