“كي الوعي”.. الجبهة الفعّالة في الحرب المركّبة لسلب إرادة الصمود والقتال
عبد الله عيسى
يجيد العدو الإسرائيليّ إخفاء قتلاه وجرحاه وخسائره وربّما أسراه، سواء على جبهات القتال أو بين مستوطنيه. وهو أداء رقابيّ متشدّد يخضعه لسياساته الصارمة في ضبط إعلانه عن خسائره، فهو يميّز بين قتلاه، مرتزقة أو عربًا أو يهودًا، ويمنع بعض الأخبار من النشر، ويعلّق بعضها الآخر على إذن النشر. وقد يفسح المجال بالنشر المقيّد وفقًا لما يبيحه أو ما يخرج عن سيطرته. ويعدّ ذلك جزءًا من منهجيته في إدارة العمليّات والمعارك والحروب. وعلى سبيل التوضيح والاستزادة، في المواجهات الأخيرة الدائرة عند الحافّة الأماميّة اللبنانيّة وداخل قراها، أقرّت وسائل إعلام العدو إلتزام سياسة الإعلان عن الإصابات الخطيرة فقط من دون الإعلان عن الإصابات الطفيفة والمتوسّطة، لأنه يبقى شاخصًا على التقليل من الخسائر وآثارها، ورفع معنويات جيشه وسائر أجهزته العسكريّة والأمنيّة وجمهوره الداخلي والخارجيّ، واستثمار ذلك بمعالجة التباينات أو التناقضات البينيّة والحيلولة من دون استفحالها.
من جهة أخرى؛ عندما يمارس العدو حربه النفسيّة في إعلامه وناطقيه وأدواته عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائله الأخرى، إنّما يبنيها على دراسة سيكولوجيّة وسوسيولوجيّة خبيثة لجبهات عدوانه وفقًا لأهداف حربه “الوجوديّة المركّبة”، جاعلًا من حربه النفسيّة متلازمة مع الضربات العسكريّة والأمنيّة، ومتوافقة مع سياساته الدبلوماسيّة الخارجيّة، واضعًا حملاته التهديديّة معطوفة على أكاذيبه بتلميع صورته الخادعة، بما ينطلي على الرأي العام الغربيّ الذي تجيد اللوبيّات الصهيونيّة العزف عليه من خلال وكالات الأنباء العالميّة ووسائل إعلامه الإقليميّة وبعض المحليّة بما يخدم مآربه العدوانيّة؛ مضافًا إلى إرسائه مفاهيم من شأنها تثبيط عزائم أهل الحق والأرض ساعيًا إلى “كيّ الوعيّ” في مختلف المستويات من الجمهور وقياداته الميدانيّة ونخبه المجتمعيّة وانتهاءً بصانعي السياسات والقرار ولاعبي الدور التفاوضي.
سبق أن انتهج العدو الصهيونيّ ذلك في حروبه ومعاركه المختلفة، ومنها اعتداءاته المتكرّرة على سوريا على سبيل المثال، إثر المؤامرة الدوليّة التي فرضت عليها. آنذاك، تعمّد العدو الصهيونيّ أن يرفق اعتداءاته تلك برسائل تهديد نصّيّة تصل إلى هواتف بعض الضبّاط السوريّين الميدانيّين في منطقة الاستهداف، هادفًا زرع مغالطة تفيد بأن إيران باتت تشكّل عبئًا فباتت تهديدًا لحياتهم ولأمن المجتمع السوريّ، وأن هذه الضربات العسكريّة استثنت هؤلاء الضبّاط هذه الجولة من العدوان لتثنيهم عن علاقتهم بإيران وحزب الله، وبذلك يسعى العدو برسائله الناريّة والنصيّة الموازية للحصار الاقتصاديّ ولا سيّما بعد صدور “قانون قيصر” عن الكونجرس الأميركيّ في العام 2019، إلى تحويل الانتباه من العدوان الإسرائيليّ إلى الوجود الإيرانيّ، تمهيدًا لتعديل ما في القرار السياسيّ وبالتالي الميدانيّ تحت ضغط العواقب ما يظهر تقاطع الأدوات الاقتصاديّة مع العمليّات العسكريّة والأمنيّة مع الفتن والشائعات والحرب النفسيّة لأغراض واحدة هي الاستسلام أمام المهيمِن والمحتل وشلّ الدولة السوريّة بأركانها كافة، شعبًا وسلطة وأرضًا، وتعديل موقعها الجيوسياسيّ والاقتصادي ودورها الاستراتيجيّ في الممانعة.
هذا المثال، لا يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، إنما يعبّر عن المراحل المتراكمة من الحرب الممنهجة والمعقّدة المستمرة، والمتراكبة نفسيًا وثقافيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا، ويسلّط الضوء على جبهة تخصّصيّة لدى العدو وحلفائه، عنوانها “كيّ الوعيّ”، وهي تتفاعل مع الجبهات الخمس الأخرى (البر، البحر، الجو، الطيف، السيبيريّة) لتحقيق أهداف الحرب والحصول على أعلى نتائج جيوسياسيّة في منطقة غرب آسيا.
هكذا، منذ قيام العدو الإسرائيليّ بعمليّات التهجير والإبادة في غزّة مع نهاية العام المنصرم، وارتكاب الجرائم والاغتيالات وإطلاق حملته البريّة في لبنان، سعى إلى تحميل قوى المقاومة مسؤوليّتها عما آلت إليه الأمور. وانطلى هذا على كثيرين من الساسة والنخب وأصحاب القلم، وباتوا ينهشون بقرارات المقاومين وتحالفاتهم وخياراتهم ومساندتهم لبعضهم البعض دولًا وحركات، وما هذا إلا جهل مركّب بمشاريع الهيمنة والاحتلال وبمنطق اشتغال جبهة المقاومة.
لقد سقط في فخ “كي الوعي” كل من قفز عن حقيقة المشروع القديم “ولادة شرق أوسط جديد” -والذي استتبع باستراتيجيّة “صفقة القرن” الاستسلاميّة- إلى المقاربة الظالمة لــ”طوفان الأقصى” ومساندته؛ بينما ترسم الويلات الأميركيّة خرائط الهيمنة ينكفئ السذّج إلى حماقة عدم رعاية السيادة الوطنيّة والقوميّة بالدفاع والحماية، ويستسيغون النيل من دول وحركات المقاومة بتخطئتها، عزفًا منهم لأوركسترا القوّة بالضعف، وهو نشاز ممجوج بائد ينتمي إلى ما قبل إسقاط اتفاقية السابع عشر من أيّار/ مايو 1983، فيتخلّفون عن الزمن، لا سيّما مع هول التضحيات ورمزيّتها، وأرصدة الانتصارات المتلاحقة (2000، 2006، 2017)، وملاحم البطولة في الصمود والمواجهات الجارية.
في حسابات الجغرافيا والتاريخ والكرامة الإنسانيّة والإلهيّة، لا يمكن لمنطق المقاومة وفعلها إلّا أن ينتصرا، وستتلاشى إنذارات العدو الإسرائيلي وخرائطه المرفقة التي تطال المدنيّين الآمنين بذريعة استهدافه “منشآت ومصالح تابعة لحزب الله”، لأن ما بين الناس وحزب اللّه قيم حفظ المقاومة وخدمة أهلها بأشفار العيون. ومن قَبِل النزوح منهم عن داره ثقةً برسوخ المقاومين وبسالتهم لن يرضخ لاحتلال أرضه وسلب عزّته وكرامته عبر استجداء وقف النار.
يريد العدو من عمليّات “كي الوعي” تحقيق مجموعة أهداف منها:
1. التشكيك بقدرة المقاومة على الصمود والمواجهة وتحطيم الروح المعنوية أو خفض معنويّات قادة دول وحركات المقاومة وحاضنتها الشعبيّة وبيئتها المجتمعيّة الأعم.
2. تأليب بيئة المقاومة عليها وزرع بذور الشك بقدرات حلفائها وبوفائهم لها.
3. تحويل الاهتمام من العدوان الصهيو-أميركي إلى النقاش في مسوغات الفعل المقاوم وتسويغ جرائم قتل المدنيين.
4. سلب الشعور بالأمن وفتح الباب لإحداث الفوضى والفتن وبث الشائعات في مجتمعات جبهة المقاومة.
5. التعديل في قرارات قادة دول وحركات المقاومة بمختلف مستوياتها وجبهاتها وإخضاعهم للشروط المذلّة تحت النار.
في المقابل، ينبغي مواجهة ذلك باستراتيجيّات فعّالة للقادة والنخب والفاعلين الاجتماعيّين في دول وحركات المقاومة، منها:
1. اليقين بالنصر الإلهي والثقة بالقادة المخلصين وببطولات المجاهدين، وبأن الأرض ستخرج أثقالها وبركات نصرها واقتدارها.
2. متابعة مجريات الميدان وإعطاء كلّ مفاجأة حقّها؛ فالقتال الملحميّ الذي تشهده الحافة الأماميّة والتدرّج التصاعديّ في عدد العمليّات ووسائلها القتاليّة وإمكاناتها التدميريّة، وما تستند إليه من معلومات استخباريّة، وصلت إلى غرفة نوم “نتنياهو”؛ هذه كلّها تمنح الثقة أن المواجهة ضروس، وأن اليوم الحالي كما التالي سيشرق بشمس المقاومة من جديد.
3. الاتحاد والتضامن والتكافل وتقديم كل ما يمكن لمساندة المقاومة كواجب كفائي وفوري.
4. عدم الاكتراث بالشائعات والأخبار، وكل ما يقوله الأعداء ويردّده الإعلام المتفاعل معه بالصراحة أو المواربة، ومحاربة ذلك مع تجنّب نشر أو تداول ما قد يستفيد منه العدو أو يضر بالمقاومة وأمنها.
5. اعتماد رواية المقاومة وليس الإعلام العبري؛ “فالصدق ما قالته المقاومة”، أمّا اقتران تهديد العدو بفعله لا يخرجه عن دائرة العدائيّة والمكر والخداع والكذب.
ختامًا، إن أخبار الميدان، تشير إلى تقدّم نوعي على خمسة محاور، تكابد معها فرق العدو الخمس خسائرها بما يستنزفه بنيويًّا في علّة وجوده ومقوّمات بقائه، بعدما استهلك أقصى قوّته؛ بينما تتدرّج المقاومة لترفع من منسوب إيلامها له، ما يرسّخ الوعي والإرادة عندها وعند أهلها على يقين من النصر، فيرتد “كيّ الوعي” على العدو وحلفائه وأدواته، بالخيبة في معركته الوجوديّة باستنزاف محسوب قد ينفصل أو يتصل بالمعركة الكبرى، مع الانفتاح على متغيّرات تفاعلات جبهات الإسناد الأخرى، وخصوصًا عند مشارف عملية الوعد الصادق الثالثة.