اخبار دولية وعربيةاخبار محليةالعرض في السلايدرمقالات

أجمل الأمهات: دمعتان ووردة وسلام إلى سيدنا

ليلى عماشا

وقالوا تراب قرى “الحافة الأمامية” في أربعينك توشّح بالبارود وقاتل قاتلك.. وفرّ النّدى من صخر الحجير كدمع مشتاق لا يُذاع له سرُّ.. قالوا يا سيّدي، إنّ قرى البقاع احتضنت بكلتا ذراعيها أخواتها العامليات، ومعًا سترن الجرح العميق بخمار زينبيّ الصّبر، كربلائي العطر.. وواجهن آلة القتل بكلّ ثبات. وقالوا، في الضاحية سرى صوتك يلملم التعب عن وجه الأبنية، ومسّد بكفّه وجه المدينة المرصّعة بخطوات من صاروا شهداء..

في أربعينك يا سيّدي، منّا من وجد الزمان ثقيلًا بطيئًا فحسب الأيام التي تفصل بين اليوم ولحظة عروجك ألف دهر، ومنّا من حسبها مرّت بسرعة كأنّه لم يزل عالقًا في برهة الارتقاء، في صوت دويّ الأطنان المتفجرة التي استهدفتك، في الخبر العاجل الذي أذاع البيان.. منّا من لا يكفّ عن مطالعة كلّ كلمة لك، كلّ صورة.. يستمدّ العزمَ من أصدق الأثر، ومنّا من يتحاشى اللقاء بصورك وصوتك كي لا يغلبه الدّمع الحبيس المؤجل.. منّا من قال إن عمق جرحنا فيك هوّن علينا بعدك الدنيا، صغّرها، كشف حقيقتها.. ومنّا من استمدّ من الجرح غضبًا كفيلًا بالثأر وبالنصر المدوّي.. والكلّ، الكلّ يا سيّد الكلّ، من أعتى التوجّع صاح، أنْ ما رأينا إلّا جميلًا..

أربعون وردة يا سيّدنا نمت في تراب جرحنا العظيم.. وردة تحمل صوتك، والثانية عزمك، والثالثة حكمتك، والرابعة بصيرتك والخامسة حنانك.. وبعدها صدقك ولطفك وقوتك ويقينك وحياءك وصلابتك وصبرك ورأفتك وطهرك وتضحيتك وإيمانك وتسليمك وتوكّلك وبذْلك وبسمتك.. ورد حمل شبابك الذي أفنيته مجاهدًا، وورد تخضّب بعطرك قائدًا منصورًا مسدّدًا.. ورد فاح بتعاليك عن الجراح ورد حدّث عن قلبك في يوم استشهاد بكرك.. ورد نطق بأسماء رفاق الدرب الشهدا، وورد حكى الشوق لحضن الوالدة.. ورد تلوّن بصور السابقين وآخر أضاء بنور اللاحقين.. في أربعينك، وجد كلّ منا في قلبه باقة ورد منك إليك.. نثرها فوق الصورة، وسقاها بدمعتين هاربتين من ضرورة التأجيل..

بالأمس، اطلّعنا على لمحات من مشهد وداع العائلة لجثمانك الشريف كما حكاه عبر قناة “المنار” الأخ ياسر عباس الموسوي، اختنق أشرف الناس أمام لحظة قالت لك فيها وحيدتك زينب “ولو صرلي سنة ما شفتك!”. جملة واحدة قصّت حكاية عمر أفنيته حبًّا بالحقّ، وقصمت ظهر القلب.. جملة ذبحتنا حياءً، نحن الذين كنَا نغبط أولادك لظنّنا أنهم يلتقون بك كلّما أرادوا.. ونغار منهم، ربّما، لأنهم يحظون بنعمة سماع صوتك ومحادثتك في كلّ الأوقات. لبرهة، وددنا أن نعتذر لزينب، فالغياب الذي حال بينها وبين ضمّة أبيها كان فداءً عنّا جميعًا.. نحن الذين لطالما قلنا إنّنا فداك، عرفنا ما معنى الفداء، وما معنى أن يبذل القائد عمره كلّه، بكلّ تفاصيله، بأكثرها حنانًا، بأكثرها التصاقًا بقلبه، في سبيل القضية.. أيّ إنسان كنت كي تبذل بهذا القدر حتى يصبح كل عمرك بذلًا متواصلًا، وأي ناس نحن كي نستحقّ نعمة أن عشنا عصرك!.

وبالأمس، رأينا والدة شهيد تودّع جثمانه، تحمّله إليك السلام: “سلّملي ع السيد حسن يا إمّي.. بس السيّد حسن كسرني يا إمّي بس”.. كنت حاضرًا يا سيّدي في آخر لقاء بين أم وابنها.. حضرت في قلبها المنكسر الذي لم يكسره فقد الابن إنّما فقدك.. كلماتها القليلة المنسابة من روح الأمومة في لحظة بهذا الجلال، حدّثت دونما قصد عن روح الصلة التي جمعتك بأهلك، أهل المقاومة.. عن حقيقة ذاك الوصل العميق بين الناس والقائد، بحيث صرت الفرد الأعزّ في كلّ العوائل، وبكر كلّ قلوب الأباء، وحبّة عين كلّ الأمّهات، الوالد السند لكلّ الشبّان والشّابات، والأخ الحبيب، والصديق الصادق، والجار العزيز، وحامي الحمى من بعد الله..

وبالأمس يا سيّد، كان أبناؤك في الميدان أولي البأس، تمامًا كما عرفتهم.. كما ربّيتهم.. وكما وعدوك. حاملو أمانة الدم والصبر، على عهدهم، “بيبيضوا الوجه” كما وصفهم رفيق دربك الحاج عماد.. بالله كيف كان اللقاء بينكما؟ بأي شوق استقبلك الحاج رضوان وضمّك السيّد ذو الفقار؟ كيف لمعت أعين غرباء الثمانينيات وبواسل التسعينيات وأبطال معركة التحرير وأقمار النصر الإلهي وفرسان الدفاع عن الأرض والعرض ضدّ الإرهاب التكفيري حينما التقيتهم؟ كيف قبّل جبينك الحاج قاسم؟ وبأيّ لهفة استقبلك الحاج أبو مهدي المهندس؟ كيف احتضنك السيد حسين بدر الدين الحوثي؟ وكيف تجمّع كلّ شهداء الأمّة حين التحقت بهم؟! نغبطهم والله، نغبطهم مرتين، مرّة على حسن الخاتمة، ومرّة على عروجك وانضمامك إليهم في رحاب رحمة الله..

مرّت الأربعون يومًا يا سيّدنا، والدّمع ما زال مؤجلًا والعزاء.. يواسينا أن في يوم العودة، فوق ركام بيوتنا سننصب خيام العزاء والتبريك بشهادتك، وسننادي من عمق جرحنا العزيز، “أرضيتَ با ربّ!”.. يواسينا أنّ يقينك صار يقيننا، والنّصر الذي وعدتنا به آت حتمًا.. ويواسينا أنّنا حظينا بشرف العيش في كنفك، وأن الله اختبرنا بوجع العيش بعدك لندرك معنى “هيهات منّا الذلّة”..

 

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com