اللوم و الانتقاد يصيبان الطفل بداء المثالية
يقتصر اهتمام الآباء بالأبناء في الكثير من العائلات على توجيه اللوم والانتقادات لهم، والبحث عن الجوانب السلبية في جميع تصرفاتهم وتسليط الضوء عليها. وهذا الأسلوب ينمّي الشعور بالذنب لدى الطفل ويصيبه بداء المثالية، فلا يرضى عن نفسه أبدا ويركز فقط على الجوانب السلبية في تصرفاته ويتجاهل أيّ شيء إيجابي أو جيد قام به، مما يجعله في حالة إحباط دائم وسخط على نفسه وعلى كل ما حوله.
يبرر آباء كثر استخدام اللوم والانتقاد كأسلوب ناجع في تربية الأبناء، إلا أن هذا الأسلوب حتى عندما يقومون به من منطلق الحب والحرص على مصلحة الأبناء، يمكن أن يؤدي إلى عواقب طويلة المدى على نفسياتهم وعلى تكوين شخصياتهم وعلى مستقبلهم.
وأكد أخصائيو علم النفس أن أسلوب اللوم والانتقاد الذي يتبعه الوالدان في تربية ابنهما يؤدي إلى ضغوط عاطفية، ولا يؤدي إلى تحمل المسؤولية ولا يعزز الاستقلالية، ولا يسمح له بتحديد القيم التي يجب اتباعها كما أنه لا يدعم قدراته بل يحكمه فقط. وأشاروا إلى أن اللوم يزيد من السيطرة على الطفل، ويسهل مهمة الوالد المتسلط، إلا أنه في المقابل يملأ الطفل بالمخاوف وبالتالي يصبح أكثر قابلية للخضوع، لاهثا وراء المثالية لإرضاء والديه وتجنب نقدهما مما يرهقه نفسيا.
الأطفال الذين يعانون من محيط أسري مثالي يغيب عندهم في أغلب الأحيان التحفيز، لأنه مكلف على المستوى النفسي فيشعرون بالإحباط
ولفتوا إلى أنه لا يوجد طفل يعمل على إزعاج والديه، وعلى العكس من ذلك يعمل أغلب الأطفال على إرضاء آبائهم وأمهاتهم وجعلهم فخورين، إلا أن عدم نضجهم هو ما يمنعهم من التكيف مع مبادئ أو معايير معينة يحتاج الآباء إلى مساعدتهم على فهم سبب وجود هذه المعايير ومن أين أتت.
وقالوا إن بعض الأطفال يميلون للمثالية كنمط شخصية ويحبون الكمال، بينما يكتسب أطفال آخرون حب الكمال نتيجة تعامل أهلهم معهم، إذ لا يقبلون منهم أي عمل إلا إذا كان على أتم وجه، لذا يظن هؤلاء الأطفال أن حب أهلهم لهم وقبولهم لديهم مرهون بتحقيقهم أقصى درجات الكمال، ويجعلهم يعتقدون أن جميع القواعد التي يضعها أولياء أمورهم لا جدال فيها وأن كسرها سلوك غير أخلاقي.
وأفادوا أن المبالغة في انتقاد الطفل تطارده طوال حياته، موضحين أن الأطفال لديهم نفس الحاجة للكبرياء والاحترام والكرامة مثل البالغين، لذلك عندما تسحب هذه الأشياء منهم، فإنهم ينهارون مثلهم.
وأوضح الخبراء أن تأثير كلمات الآباء والأمهات في أطفالهم قوي إلى أبعد الحدود، فبعض الكلمات قد تجعلهم يشعرون بسعادة لا حدود لها، وبعض الكلمات تلحق بهم الضرر وتترك ندوبا لا تمحى بمرور الزمن.
وقالت المختصة النفسية هدى عبدالعال العماوي إن اللوم والانتقاد يفقدان الطفل ثقته في نفسيه ويزيدان لديه العناد والعصبية، ويكون عنيفا في التعامل مع من حوله، منبهة إلى أن اللوم والانتقاد من طرف الآباء والأمهات يغذيان أسلوب العنف والتمرد لدى الطفل خاصة إذا استخدما معه أسلوب المقارنة.
وأكدت لـ”العرب” أن “هذا الأسلوب التربوي العنيف يقلل الثقة بالنفس، فالمبالغة في اللوم والانتقاد يسببان للطفل العنف والعدوان وقلة الثقة بالنفس وقد يجعلاه يتبنى سلوكيات شاذة بعيدة عن المثالية، معتقدا أنه بذلك ينتقم من أبويه لأنهما مصدر انتقاده ويسعى إلى إخراج الطاقة السلبية التي بداخله من خلال السرقة والكذب وقد يؤدي ذلك إلى الانطوائية الشديدة والعناد في ردود أفعاله”.
وشددت المختصة المصرية على ضرورة تجنب الآباء والمربين أسلوب اللوم والانتقاد واستخدام أسلوب التشجيع والمكافأة على السلوكيات الجيدة والسلوكيات السيئة يتم نبذها، لأن اللوم والانتقادات لهما آثار سلبية على شخصية الطفل وعلى مستقبله.
ونبه المختصون إلى أن كثرة توبيخ الطفل تجعله يغير سلوكه كليا لتجنب هذا النقد، وفي بعض الأحيان سيطيع والديه ويسلك السلوك الجيد، وفي أحيان أخرى سيكذب وربما يحترف السرية في أفعاله، مؤكدين أن تجنب الانتقاد سيكون الدافع الأساسي للطفل بدلا من التركيز على الشيء الصحيح، استنادا إلى أنه لا يريد أن يستمع إلى انتقادات تصفه بالغباء وتشعره أنه المتسبب في خذلان والديه دائما.
وأظهرت دراسات حديثة أن تأنيب الأطفال قد يؤدي بهم إلى الاستجابة بسرعة لكن يقلل من ذكائهم، وقالت الباحثة من جامعة هامشير ماري ستراووس إن الأهل الذين يريدون أن يكون أولادهم ظرفاء عليهم تجنب تأنيبهم، مؤكدة أن التأنيب يخفف القدرات العقلية لدى الأطفال.
ولفت الباحثون إلى أن النقد المستمر من أحد الوالدين ينتج عنه صوت داخلي شديد النقد لدى الطفل يشوه نظرته للعالم ويمكن أن يؤدي إلى سلوكيات مؤلمة تتبعه لاحقا في الحياة، مؤكدين أن الأطفال لآباء كثيري النقد يظهرون انتباها أقل لتعبيرات الوجه العاطفية، مبينين أن هذا السلوك ربما يؤثر على علاقتهم مع الآخرين ويمكن أن يكون السبب وراء خطر إصابة الأطفال الذين يتعرضون إلى مستوى عال من النقد بالاكتئاب والقلق.
وأكد أخصائيو علم النفس أن بعض الأطفال يجدون أنفسهم في حالة تأهب قصوى أمام الصعوبات، مما ينجر عنه ضغط نفسي عال وخوف دائم من الفشل، مما يرهقهم ويجعلهم يوجهون كل طاقاتهم في معالجة الحالة النفسية وليس لإنجاز المطلوب فتكون النتيجة عادة الفشل.
وقالوا إن الأطفال الذين يعانون من محيط أسري مثالي يغيب عندهم في أغلب الأحيان التحفيز، لأنه مكلف على المستوى النفسي فيشعرون بالإحباط وتثبط عزائمهم بسهولة مع أول مواجهة، وهو ما قد يؤدي إلى شعور بعدم الرضا والاكتئاب والانعزال.
وأشاروا إلى أنه عادة ينعكس السعي إلى الكمال بشكل إيجابي على الحياة العملية والمهنية للأشخاص، إلا أن ثمن ذلك قد يدفعه الشخص من صحته العقلية والجسدية. ويعرف الخبراء السعي إلى الكمال بأنه مجموعة من المعايير الشخصية العالية جدا والتقييم النقدي الذاتي المبالغ به.
وقسمت دراسة أنجزها الأستاذ في كلية الصحة بجامعة يورك في أونتاريو بكندا جوردون فليت وبول هيويت أستاذ علم النفس في جامعة كولومبيا البريطانية المثالية إلى ثلاثة أنواع تتمثل في الكمال الذاتي حيث يحمل الإنسان توقعات عالية جدا من نفسه ويتوقع النجاح والمثالية في كل خطوة من حياته، ما يعني الكثير من التوتر والقلق خلال أداء مختلف المهام، والكمال الموجه نحو الآخرين حيث يتوقع الشخص من الآخرين أن يكونوا كاملين، ويضع على عاتقهم توقعات مرتفعة مما يؤثر سلبيا على علاقاته بالتأكيد، والكمال المحدد من قِبل المجتمع وهو توقع الشخص رضا الوالدين، أو من يحب أو المجتمع عنه إن تصرف بمثالية.
دراسات حديثة توصلت إلى أن نسبة كبيرة من المنتحرين من الأطفال والشباب كانوا ممن يسعون لتحقيق توقعات آبائهم وأمهاتهم
وأكدت الدراسة أن الصحة العقلية تتأثر بالسعي نحو الكمال بحسب النوع الذي يعايشه الشخص ويسعى إليه ولأي درجة، وكشفت الدراسة أن النوع الأسوأ هو الكمال المحدد من قِبل المجتمع، نظرا إلى قدرته على إضعاف الشخص أكثر من أي نوع آخر، موضحة أن الأشخاص في هذا النوع يظنون أن توافقهم مع المجتمع مطلب غاية في الأهمية، وأن الناس يحكمون عليهم بشدة وأن عليهم إظهار الكمال لضمان قبولهم في المجتمع، ويرتبط ذلك بمشاكل صحية عقلية مثل القلق والاكتئاب والتفكير بالانتحار.
وتوصلت دراسات حديثة إلى أن نسبة كبيرة من المنتحرين من الأطفال والشباب كانوا ممن يسعون لتحقيق توقعات آبائهم وأمهاتهم، كما أن 70 في المئة ممن انتحروا من الشباب كانوا ممن يثقلون كاهلهم بتوقعات عالية جدا حول أنفسهم.
وكشفت أن السعي إلى الكمال يؤثر بشكل أساسي على الشباب والأطفال، حيث يعاني ما لا يقل عن 30 في المئة من طلبة الجامعة من أعراض الاكتئاب في مرحلة ما من حياتهم، وقد رُبطت المثالية والسعي لها بتلك الأعراض.
وأوضح المختصون أن النقد الهادف والبناء يراد منه تحسين الشخصية، ويمثل دافعا للتقدم إلى الأمام من دون تجريح أو تقليل من شأن هذه الشخصية، أما النقد الهدام عادة ما يكون لإبراز الأخطاء، وبين طياته إحراج وتشويه للشخصية، وللأسف هذا ما يقع فيه كثير من الآباء عند نقدهم لأبنائهم بأسلوب خاطئ، من دون مراعاة لقواعد النقد الهادف.
ويأتي الخلط بين النقد البناء والهدام من قبل الأهل بسبب ظنهم أن الانتقاد بغض النظر عن أسلوبه يعد الحل الأمثل لتصحيح أخطاء الأبناء، وأنهم كآباء يخول لهم توجيه أبنائهم بالأسلوب الذي يرونه مناسبا من وجهة نظرهم، وفي الأغلب يحمل الآباء أبناءهم مسؤولية أسلوبهم الفظ في نقدهم، فتتحول عملية النقد إلى تدمير لا تقويم، وتجر معها ويلات أعظم من تلك السلبيات التي استحقت النقد.
حسينة بالحاج أحمد
كاتبة من تونس