(نص) المحاضرة الرمضانية الـ14 للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 17 رمضان 1445هـ – 27 مارس 2024م
21سبتمبر||
المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة الأربعاء 17 رمضان 1445هـ 27 مارس 2024م
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نستكمل الحديث عن يوم الفرقان (غزوة بدرٍ الكبرى)، التي كان لها تأثيرٌ كبيرٌ جداً في تاريخ المسلمين، ولها أهميةٌ كبيرة في صناعة فارقٍ كبير على مستوى تاريخ البشرية بشكلٍ عام، وكنَّا تحدثنا أمس بإيجازٍ واختصار، وعلى ضوء بعضٍ من الآيات المباركة، التي وردت بشأن ذلك في (سورة الحج، وسورة الأنفال)، ووصلنا إلى ما قبل الالتحام في القتال والمعركة، ونتحدث اليوم، لنقدم موجزاً ملخصاً عن مجريات المعركة، ثم نتحدث عن الدروس والعبر، التي نحن بحاجةٍ إليها؛ للاستفادة من هذا الحدث التاريخي العظيم.
عندما اصطف الطرفان للقتال في بدر، خرج ثلاثةٌ قبل البدء بالاشتباك من أبطال المشركين، هم: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وابنه الوليد، وكان عتبة هو وأخوه وابنه أيضاً هم من الذين لهم دور أساسي في مكة، في الصد عن الإسلام، في محاربة الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” بالحملات الدعائية، في تثبيط الآخرين وتخويفهم عن الالتحاق بالإسلام، وكما هو حال بعض البيوتات الأخرى في مكة، التي كانت تقوم بهذا الدور؛ فخرج ليبين مدى إخلاصه لقضيته، التي هي: الشرك والكفر، والصد عن سبيل الله، والحرب ضد الإسلام، خرج بأسرته (بأخيه، وابنه)، وفي المقابل أخرج رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” علياً، وحمزة، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب “رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِم”، لمبارزتهم، وبدأ القتال بين الطرفين، وكان هذا القتال له أهمية كبيرة جداً لما بعده، فالذين خرجوا من جهة المشركين من أبرز الشخصيات المهمة في صف المشركين، والذين خرجوا في صف المسلمين كذلك هم أبرز المجاهدين في صف المسلمين؛ ولذلك سيكون للنتيجة، للمبارزة فيما بين هؤلاء، أهمية وتأثير معنوي فيما بعده.
ولأهمية هذه المواجهة التي بدأت في مقدمة معركة بدر، وفي بداية الاشتباك، قبل الاشتباك العام، نزل قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}[الحج: من الآية19]، ليكون أولئك هم المصاديق الأولى لهذا الاختصام، ولهؤلاء المتخاصمين.
والشيء المؤسف في واقع البشرية هو هذا: أن يكون منهم من يتَّجه للصد عن سبيل الله، للكفر بنعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، للجحود بالحق الذي أتى من عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لمحاربة الرسالة الإلهية، والوقوف ضدها، حينها يصبح الاختصام بهذا الشكل؛ بينما من الشرف الكبير لمن ينطلق وهو مناصرٌ لرسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يقف في صف الحق، يؤيد توجيهات الله، يتبنى نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ويقف في صفه، يصبح هذا من الشرف الكبير جداً، ويصبح الخصام هذا كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}، ثم تكون النتيجة نتيجة كبيرة في الدنيا والآخرة، نتائج وتداعيات وآثار وتبعات هذا الاختصام تمتد من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة.
عندما حصلت المبارزة بين هؤلاء الذين خرجوا من صف المشركين، والثلاثة الذين خرجوا من صف المسلمين، كانت النتيجة انتصاراً مهماً للمسلمين، حيث قُتِل الثلاثة الأبطال الذين خرجوا من صف المشركين بكلهم: عتبة، وشيبة، والوليد، ومن جانب المسلمين استُشِهد عبيدة، فكان هذا له أثره الكبير في معنويات المسلمين من جهة، وتفاؤلهم بالنصر، وترسيخ ثقتهم بوعد الله الحق الذي لا يتخلف؛ أمَّا في جانب المشركين فقد كان لمقتل الثلاثة الذين خرجوا، وهم من أبطالهم، وفرسانهم، ومقاتليهم، والشخصيات البارزة فيهم، والبيوتات المؤثرة في أوساطهم، كان له انعكاس على هبوط معنوياتهم وتشاؤمهم، ومثَّل صفعةً مهمةً لهم.
والتحم الطرفان للقتال، واشتد القتال، وحمي الوطيس، وأخذ رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” كفاً من الحصباء- ملأ كفه من الحصباء- ورمى به أثناء اشتداد المعركة، وبعد وقت من النهار والمعركة مشتدة، رمى به في وجه المشركين، وقال: ((شاهت الوجوه))، صاح بهم بهذا: ((شاهت الوجوه))، ومكَّن الله منهم، واستحر فيهم القتل، في أبطالهم، وفي كبارهم وشخصياتهم المؤثرة والبارزة؛ فَقُتِل من مقاتليهم وأبطالهم ما يقارب- أو حسب الإحصائيات- سبعين قتيلاً، وأسر منهم سبعون، وانهزموا هزيمةً كبيرة، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}[الأنفال: من الآية17]، فعلاً أتى التأييد الإلهي حتى في وقت تلك الرمية، التي كان لها أثرها العجيب جداً، مع أنه رماهم بالحصى، ولكن كان لتلك الرمية أثرها الكبير مع الفعل، مع الموقف، مع القتال، مع الاشتباك؛ فيأتي التأييد الإلهي بأشكال كثيرة، ولكن مع قيام المؤمنين بمسؤولياتهم وما عليهم، وأخذهم بأسباب النصر، وأخذهم بأسباب النصر.
فتحقق الانتصار الإلهي العظيم للمسلمين، وكان نصراً قوياً، فاجأ الأعداء، وفاجأ المتربصين، سواءً من كانوا متربصين في المدينة، من المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، واليائسين، وضعاف الإيمان؛ أو من البقية، من المحيطين بالمجتمع المسلم، مثلما هو الحال بالنسبة لليهود، وبقية القبائل العربية الأخرى، الذين فوجئوا جميعاً بذلك الانتصار العظيم، وتلك الهزيمة المُرَّة والنكبة الكبيرة للمشركين من قريش.
وأسس الله بهذا الانتصار لمرحلةٍ جديدة، أصبح للمسلمين فيها هيبتهم وعزتهم، وأعزهم الله بذلك النصر بعد الاستضعاف الكبير، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[آل عمران: الآية123]، فكان فعلاً يوماً فارقاً، وكانت تلك المعركة فارقة، ما بعدها اختلف تماماً عمَّا قبلها، في عزة المسلمين، في هيبتهم، في أمل الآخرين، الذين كانوا مضطربين ومترددين: [هل سينتصر الإسلام لو واجه تحدياً عسكرياً؟ هل سيتمكن من تحقيق النصر والثبات والاستمرار، أم أنه عند أول عاصفة وفي بداية أول تحدٍ عسكري يمكن أن يتغير كل شيء؟]، فكانت تلك المعركة مصيرية في آثارها ونتائجها؛ بينما كان أمل المشركين أن يقتلوا رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” ومن معه من المسلمين، والذين خرجوا معه هم صفوة المسلمين، هم الأكثر ثقةً بالله، وتوكلاً على الله، واستجابةً لرسوله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، وتفاعلاً معه، واستجابة للتحرك في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
وكان موقف الأنصار موقفاً عظيماً ومميزاً، كما قال عنهم سيدهم (سعد بن معاذ) فهم كانوا فعلاً صُبُراً في الحرب، وصُدُقاً عند اللقاء، واستبسلوا، وقاتلوا ببسالة. أيضاً تميز في معركة بدر موقف أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وبسالته، وشجاعته، وتفانيه في سبيل الله تعالى، وفتكه بالأعداء، وما حققه الله على يديه، حيث في الأخبار والسِّيَّر أنَّه قُتِل من المشركين على يديه ستةٌ وثلاثون من مجموع القتلى، وفي بعضها أكثر، إضافةً إلى اشتراكه في قتل آخرين، وذاع صيت شجاعته وبطولته في أوساط العرب وأوساط المشركين بعد تلك المعركة وما حصل فيها، وذكر التاريخ وذكرت السِّيَّر بطولات للمؤمنين، ولكن المسألة كلها تعود إلى تأييد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والدور العظيم للرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، في الترتيبات القتالية بكلها، وفي إدارة المعركة، وما حققه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وما كان للجوانب المعنوية فيها من أهمية وتأثير كبير.
التفاصيل المتعلقة بالمعركة هي مذكورةٌ في كُتب السِّيَّر والتاريخ، ومن أهم التفاصيل أيضاً، ومن أهم الدروس والعبر المتعلقة بغزوة بدر: ما ذكره الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في (سورة الأنفال)، سورة الأنفال قدَّمت أهم توثيق لغزوة بدر وليوم الفرقان، وقرنته بالدروس والعبر والمعارف المهمة جداً، فهي غنية بما فيها من المعارف ذات الأهمية الكبيرة التي تبني هذه الأمة، ليكون لديها رؤية متكاملة في الجهاد في سبيل الله، وفي التحرك في إدارة الصراع مع أعداء الله بشكلٍ صحيح، ومن كل الجوانب؛ لأن (سورة الأنفال) تذكر كل الجوانب: الروحية، المعنوية، العملية، الاجتماعية، تحيط المسألة من كل جوانبها.
المسلمون في هذا العصر في أمسِّ الحاجة لاستلهام الدروس والعبر من سيرة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم” وجهاده؛ لأنه فيما بعد غزوة بدر استمرت السرايا، والغزوات، والحروب، والمعارك الكبرى، مع المشركين بمختلف فئاتهم: الحرب مع قريش، الحرب مع اليهود، عدة حروب مع اليهود، وكذلك الحرب مع دولة الرومان (مع الروم)، وكلها حقق الله فيها نتائج مهمة للمسلمين: ثبَّتت قواعد الإسلام، وكذلك مكَّنت المجتمع الإسلامي من النهوض، وأن يبني نفسه؛ ليكون له دوره العالمي في إطار الرسالة الإلهية؛ فكان لها النتائج المهمة جداً.
المسلمون أيضاً بحاجة إلى فهم صحيح لفريضة الجهاد في سبيل الله؛ لأنها فريضة استُهدِفت بالتهميش والتغييب:
غاب وقَلَّ الحديث عنها، سواءً في المناهج التعليمية، سواءً فيما يتعلق بالإعلام والبرامج الإعلامية، أو على المستوى التثقيفي والفكري، قَلَّ الحديث عنها كثيراً، ونقص، حتى لو كان هناك حديث، عادةً ما يكون ناقصاً، يُغفِل جوانب ذات أهمية كبيرة جداً تتعلق بالجهاد في سبيل الله.
ومن جهة أخرى: تعرضت هذه الفريضة العظيمة المقدَّسة المهمة للتشويه، شُوِّهت بشكلٍ كبير، شوِّهت من جانب التكفيريين، وبعض الأنظمة التي تدعمهم بإشرافٍ أمريكي، وتوجيهٍ غربي، والتشويه من جوانب كثيرة جداً: سواءً في تحديد من هو العدو، أو في الممارسات الوحشية والإجرامية: من قتلٍ للأبرياء، من عمليات انتحارية في المساجد، في الطرقات، في الأسواق، في المستشفيات، من استهدافٍ للناس بشكلٍ عام (كباراً وصغاراً)، وتوجيه بوصلة العداء إلى غير الأعداء: إمَّا إلى من لهم مشكلة مع أمريكا، ويتحركون في أوساط الأمة ضد العدو الإسرائيلي؛ وإمَّا بهدف إثارة الفتنة الطائفية والمذهبية بين المسلمين، وهكذا، من هذا النوع عناوين وأساليب تخدم الأعداء، في مجملها تخدم الأعداء بشكلٍ كبير ولا تخدم الأمة.
عندما نتحدث عن الجهاد في سبيل الله، على ضوء الدروس المستفادة من سيرة النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، ومن الآيات القرآنية، والرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” كان لديه اهتمام كبير جداً بالجهاد، فأخذ مساحةً كبيرة من اهتماماته، وكان حاضراً في مقدمة أولوياته، وكان أيضاً يعطيه الوقت، والجهد، والاهتمام، والتحريض، والأعمال الواسعة المتنوعة، المرتبطة بفريضة الجهاد، يعطيه أهميةً بارزةً وكبيرةً جداً، وهذا معروف؛ فهو استمر في الغزوات، والسرايا، والعمليات الاستطلاعية، ومختلف الأعمال المتعلقة بذلك، حتى كان على فراش الموت، في لحظات حياته الأخيرة، وهو يُعِدُّ جيشاً، كان يحاول أن يدفع بتحريك ذلك الجيش (جيش أسامة) لمواجهة الروم، وهو على فراش المرض، فكان اهتمامه كبيراً؛ نتحدث عن بعض من الدروس المستفادة من مسيرة النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” وجهاده، والآيات القرآنية المتعلقة بفريضة الجهاد في سبيل الله:
يتضح لنا من خلال النصوص القرآنية، والاهتمام الكبير جداً لرسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” بأمر الجهاد: ضرورة الجهاد:
هذا من أهم ما ينبغي أن نستوعبه: أنه لابدَّ من الجهاد، أنه من الضروريات التي نحتاج إليها؛ لأن الصراع حالة قائمة في واقع البشر، ليس الوضع البشري والواقع البشري مستقراً، هادئاً، لا مشاكل فيه، ولا حروب فيه، ولا صراع فيه، والبشر هادئون، وأوضاعهم مستقرة؛ فأتى تشريع الله بالجهاد ليسبب لهم المشاكل، وليثير بينهم الحروب، وليدخلهم في صراعات. ليست المسألة هكذا.
المسألة: أن الصراع هو جزءٌ من حياة المجتمع البشري، وحالة قائمة في الواقع، ومستمرة، مستمرة، البشر بينهم أشرار، بينهم طغاة، بينهم مجرمون، يثيرون الشر، يعتدون، يرتكبون الجرائم، يظلمون عباد الله، يتحركون بأطماعهم، بأهوائهم، بعدوانيتهم، يرتكبون أبشع الجرائم بحق الناس؛ فلابدَّ من الجهاد؛ لدفع شرهم، لدفع خطرهم، ولذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة: من الآية251]، وفعلاً الواقع والأحداث تثبت ذلك.
في تاريخ البشر، فيما قد مضى وإلى اليوم، كم هناك من جهات ومن أشرار ومن طغاة سيئون، يتجهون هم ويتحركون هم للعدوان على الناس، لارتكاب الجرائم، لظلم المجتمع البشري، تأتي اعتداءات على شعوب، اعتداءات على أمم، اعتداءات على مناطق، اعتداءات ومظالم كبيرة جداً؛ ولذلك فليس التشريع بالجهاد هو الذي أثار المشكلة في واقع البشر، ولكنه لحماية الناس، ولدفع شر الأشرار، ولإنقاذ المستضعفين؛ أمَّا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فهو غنيٌ عن عباده، غنيٌ عن عباده، ليس بحاجةٍ إليهم ليدافعوا عنه؛ ولهذا يقول الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت: الآية6].
ولذلك عندما يتجه المسلمون للعمل وفق انتمائهم للإسلام على أساس شريعة الله، وهديه، وتعليماته المباركة المقدَّسة، التي فيها الخير والفلاح، وفيها الفوز العظيم في الدنيا والآخرة، فيها السمو للناس، لتحقيق إنسانيتهم؛ يأتي من يعتدي عليهم، من يحاربهم، من يحارب انتشار رسالة الإسلام، من يتحرك في هذه الأرض بظلمه، بفساده، بطغيانه، بجبروته، بإجرامه، فلابدَّ من الجهاد في سبيل الله.
أيضاً الجهاد في سبيل الله ضروريٌ من حيث هو عامل بناءٍ مهم، وحافز لنهضة الأمة، وحافزٌ لها لتسعَ لتكون قويةً في كل المجالات:
وهذه المسألة معروفة في مختلف الأمم والبلدان: أنَّ التحدي يعتبر حافزاً مهماً، وأن حالة الصراع، والمخاطر، والمخاوف، التي تُحَرِّك الأمة عملياً لتبني نفسها لتكون قوية، هي من أهم الدوافع والعوامل لبناء أي أُمَّة.
بل إنَّ بعض الأمم، وبعض الشعوب، وبعض البلدان، تحدد لها- ليكون حافزاً لنهضتها- عدواً معيناً، حتى لو لم يكن عدواً حقيقياً، أو كان خصماً يمكن التفاهم معه، فهم لا يركنون إلى فرضية إمكانية التفاهم معه، ولو نأتي إلى كل البلدان التي نهضت، وتطورت، وتقدمت، وبنت نفسها لتكون قوية؛ سنجد أن لديها حافزاً مرتبطاً بالصراع والتحدي، ومواجهة الأخطار، وأنها حوَّلت هذا إلى حافز قوي، مُلهِم ومؤثِّر في أن تتحرك بفاعلية واهتمام كبير، وهذه مسألة معروفة في واقع البشر، وحينما غابت من واقع المسلمين، الذين دُجِّنُوا بطريقة غريبة جداً، وكأنه ليس لهم أعداء، ولا عليهم تحديات ولا مخاطر، وليس هناك ما يدعو إلى أن يتحركوا ليكونوا أمةً قوية في كل المجالات. فالصراع بنفسه هو حافز مهم للبناء، وللنهضة، والسعي للقوة.
هو أيضاً ضروريٌ لتحرر الأمة واستقلالها، وإلَّا أخضعها أعداؤها، وأذلوها، وسيطروا عليها، واستغلوها، واستعبدوها:
وهذه مسألة معروفة في واقع البشر، ليس هناك حتى الآن- مثلاً- في شرق الأرض وغربها، ولدى مختلف أممها وشعوبها وبلدانها، تفكير في أن مصلحة أي شعب أن يكون شعباً ضعيفاً، عاجزاً، لا يمتلك القوة، ولا القدرة العسكرية، ولا يمتلك المنعة والعزة والجهوزية لمواجهة أي عدو، وأن يتَّجه لبرامج تدجينية، بعيدة عن افتراضية الأعداء والمخاطر والتحديات.
الحالة الغريبة جداً هي: الحالة القائمة في أوساط المسلمين، في أكثر شعوبهم وبلدانهم، من أصبحت الحالة عندهم حالة تدجين، وكأنه لا أعداء لهم أصلاً، وكأن مصلحتهم في أن يكونوا أمةً ضعيفة، تهرب من كل عناصر القوة، وتتخلى عن كل أسباب القوة والعزة والمنعة، وتتمسك بكل عوامل الضعف والعجز والتدجين، وهذه حالة مؤسفة جداً في واقع المسلمين!
نحن كأمة مسلمة نعيش في وسط عالم، تحيط بنا أمم وشعوب وبلدان، لديها أهدافها، توجهاتها، كثيرٌ منها توجهاتها استعمارية، عدوانية، استغلالية، وعندما يكون هناك بلد ضعيف، عاجز، لا يمتلك القدرة، ولا يسعى للقوة، ولا يقف شعبه على أُهبة الاستعداد، وفي حالة اليقظة والجهوزية لمواجهة أي عدو، بل يكون شعباً ضعيفاً، عاجزاً، مدجناً؛ فهي وضعية- بحد ذاتها- تُطمِع الآخرين في ذلك الشعب، وفي وطنه، ثروته، ممتلكاته، ولا يمكن أن يحظى أي شعب يتَّجه على أساس التدجين، والضعف، والعجز، وعدم السعي للأخذ بأسباب القوة واليقظة والجهوزية، لا يمكن أن يحظى بالحريَّة، بل سيتجه الآخرون، كم من البلدان الطامعة والحاقدة، كم من فئات الأعداء الذين قد يتحركون ويعتبرون تلك فرصة رائعة جداً لأن يسيطروا، وأن يتغلبوا، وأن يستعبدوا ذلك الشعب، ويسيطروا على ذلك البلد.
فلا يمكن للأمة أن تكون حرةً، مستقلةً، عزيزةً، إلَّا إذا بنت نفسها على أساس الجهاد في سبيل الله، لتكون أمةً قويةً، في منعة، في عزة، في حالة جهوزية لمواجهة الأعداء والتحديات.
ثم نحن كمسلمين أمةٌ مستهدفة أكثر من غيرنا، بالرغم مما بين البشر من صراعات وخلافات، بمختلف أديانهم، وأممهم، وشعوبهم، وتوجهاتهم، بينهم الصراعات، الحساسيات، الاختلافات، الأطماع، النزاعات، ولكن الأمة الأكثر استهدافاً بين المجتمع البشري هم المسلمون، هذا ثابتٌ تاريخياً، وهذا واضحٌ في عصرنا الراهن، وبشكل يمكن للإنسان أن يتابع في أي يوم من الأيام نشرات الأخبار، حوادث الحروب، القتل، الاعتداءات، كل الأخبار المؤسفة المحزنة هي في واقع المسلمين، بين أوساط المسلمين، القتلى، الجرحى، الدمار، الخراب، الاحتلال… في واقع المسلمين.
في هذا العصر، الذي حاولت دول الغرب والدول الأخرى أن تقدِّم نفسها بأنها دول حضارية، وأنَّ هذا العصر هو عصر الحقوق، حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير للشعوب، تبقى الحالة مختلفة لدى المسلمين، البلدان التي تستهدف بالاحتلال والغزو بلدان المسلمين، الطمع الكبير في بلدان المسلمين، وثرواتهم، ومواقع بلدانهم، ويركِّز الأعداء على احتلال أوطان المسلمين، على فرض قواعد عسكرية فيها، على نهب ثرواتهم، على التحكم فيهم على كل المستويات: السياسية، والاقتصادية، على التأثير عليهم، والضغط عليهم؛ للتغيير في فكرهم، وثقافتهم، ومناهجهم الدراسية، والتحكم بها وبمخرجاتها، ليس هناك أمة تعاني من الاستهداف لها، والتدخل في شؤونها، والضغط عليها، والنهب لثرواتها، وحياكة المؤامرات لإثارة الفتن فيها، وإغراقها بالأزمات، مثل ما هو حال المسلمين، فنحن الأمة الأكثر استهدافاً بين كل أمم الأرض وشعوبها، وهذه حالة واضحة جداً، المسلمون هم من يتعرَّضون للغزو إلى بلدانهم، وأوطانهم، وللاحتلال، وللإذلال، وللإهانة، ولجرائم الإبادة الجماعية، تُرتَكب بحقهم، ولا نزال نسمع في كل مرحلة، في كل مرحلة، في كل مرحلة عن إبادات جماعية للمسلمين هنا أو هناك، وهذا على المستوى التاريخي، على مدى التاريخ، وفي عصرنا الراهن كما قلنا.
على مستوى التاريخ: نجد أنَّ المسلمين تعرَّضوا للغزو، ولجرائم الإبادة الجماعية بشكل كبير جداً، حملات كبيرة جداً عليهم؛ لغزو بلدانهم، واحتلال أوطانهم، ونهب ثرواتهم، ولتدميرهم، وقتلهم، وإبادتهم، وإهانتهم، وإذلالهم، كلنا نعرف ما جرى في التاريخ من حملات المغول، ومن حملات الصليبيين، التي هي ثمان حملات كبرى، ثم ما بعد ذلك: المجتمع الغربي بعد أن تحرَّك تحت العنوان الاستعماري، والاحتلال، والنهب، والطمع، والسيطرة، وليس تحت العنوان الصليبي، مع أنه لا يزال في الواقع يحمل نفس التوجه، نفس العداء، يحمل نفس العداء ونفس التوجه الذي كان أثناء حملاته الصليبية التي استهدفت بلداننا كمسلمين.
قرون من الزمن، تحرَّك الغرب تحت العنوان الاستعماري؛ لاحتلال بلداننا، لارتكاب جرائم رهيبة جداً، يعني: بعض الشعوب قد تصل الإحصائيات إلى قتل ثلث السكان فيها، قتل الملايين من المسلمين، ضحايا من المسلمين في تلك الحملات بالملايين، وهكذا استمر الغرب حتى هذه اللحظة، في مخلفات الاستعمار الغربي أتوا بالعدو الاسرائيلي لاحتلال فلسطين، مكَّنوه، ودعموه، وقدَّموا له كل أشكال الدعم، بما في ذلك الدعم العسكري، الدعم المالي، الدعم السياسي، وحاولوا أن يفرضوا هذا الاحتلال ليكون مقبولاً، أصدروا له حتى قرارات، قرارات في الأمم المتحدة، بمصادرة نسبة كبيرة من فلسطين، أراضي عام 48، بأي حق تصادر أرض المسلمين، أوطانهم، بلدانهم، لصالح الآخرين؟! لكن الغرب هكذا سيتعامل مع المسلمين، هم أعداء، هم أعداء.
المؤسسات الدولية نفسها هي تحت سيطرتهم، يمتلكون فيها الفيتو، يمتلكون فيها ما يعيق أو يجمِّد أي قرارات، ثم يتعامل الآخرون مع قضايا أمتنا- سواءً الغرب، أو أي دول أخرى- يتعاملون مع قضايا أمتنا الواضحة، ومظلوميتها الواضحة بلا مبالاة، وفعلاً هل نتوقع من الآخرين أن يكونوا أكثر اهتمامٍ منَّا كمسلمين بقضايانا؟! هل نريد من بلد غير مسلم هنا أو هناك، مثل ما هو الحال الآن في أحداث فلسطين، والعدوان الذي يشنه العدو الإسرائيلي على غزة، بعض المسلمين كان ينتظر من الصين، أو من روسيا… أو من أي دولة هنا وهناك، أن تهبَّ هي لتوقف العدوان على غزة، كيف نتوقع من الآخرين أن يكونوا أكثر اهتماماً بقضايانا منَّا نحن المسلمين؟!
حملات التحريض ضدنا كأمة مسلمة، سواءً في المناهج الدراسية، مثلاً: المناهج الغربية، مخرجاتها تكوِّن رؤية سلبية جداً ضد المسلمين، وضد العرب، وتعزز الحالة الاستعمارية، والأطماع في بلداننا، وأوطاننا، وثرواتنا، والموقع الجغرافي لبلداننا… وهكذا. أمَّا المنهج التعليمي والتثقيف، وكل الأنشطة التثقيفية التعليمية لدى العدو الإسرائيلي، فهي مشحونة بالحقد، والكراهية، والعداء الشديد للمسلمين، والاستباحة، والتحريض، الاستباحة لهم، لدمائهم، لأموالهم، لممتلكاتهم، لأوطانهم، وكذلك بالتحريض الشديد جداً على إبادتهم، وقتلهم، وتشبيههم بالحيوانات، بل الادِّعاء بأن أصلهم حيوانات وليسوا بشراً؛ وإنما هم في أشكال بشر، وعندما حصل التطبيع من بعض الدول العربية، لم يتغير شيءٌ أبداً في المناهج الدراسية التعليمية لدى العدو الإسرائيلي، في الأنشطة التعبوية، التي ترسِّخ الكراهية الشديدة للمسلمين؛ ولذلك عندما نرى ما يفعله العدو الإسرائيلي في غزة، من جرائم إبادة شاملة، إبادة جماعية، قتل للأطفال والنساء، تباهٍ من جنوده بقتل الأطفال، بقتل المسنين، بقتل النساء، تَعَمُّد لقنص النساء وقتلهن، هتك للأعراض، فلا غرابة في ذلك، هم تربوا على ذلك من طفولتهم، رضعوا الحقد والكراهية والعداء للمسلمين.
فأمة لها أعداء، تواجه مخاطر كبيرة، واجهت على مدى تاريخها مخاطر رهيبة جداً، تواجه مخاطر، هناك تحريض مستمر ضدها، حتى الآن فيما يعرف في الغرب بحملات التحريض والكراهية ضد الإسلام [الإسلاموفوبيا]، كم هناك من أنشطة في إطار هذا العنوان؟ أنشطة ومنظَّمات مدعومة بالأموال، وتعمل بكل ما تستطيع لترسيخ الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، حتى في المجتمعات الغربية؛ فنحن أمة نحتاج إلى أن نتحرك للجهاد في سبيل الله.
أيضاً الجهاد في سبيل الله بقدر ما هو ضرورة، وحاجة واقعية وفعلية، هو فريضة دينية، مهما تنصلنا عنها وتجاهلناها:
والقرآن الكريم أعطى مساحة للحديث عن هذه الفريضة واسعة جداً، أكثر من أي فريضةٍ أخرى، في الحث عليها، والإلزام بها، والتأكيد عليها، وصيغ الأمر، والصِّيَّغ التي تُبَيِّن أنها من فرائض الدين، وأنها إلزامية، والمساحة الكبيرة في القرآن للحديث عن الجهاد واضحة، سور بأكملها، مثلما هو الحال بالنسبة لـ(سورة الأنفال، وسورة التوبة، وسورة محمد، وسورة الفتح)، ومساحة في السور الأخرى، مساحة واسعة مثلما هو الحال في (سورة البقرة، وآل عمران، وسورة النساء، والمائدة، في سورة الحج كذلك…)، في سور كثيرة من القرآن الكريم، آيات كثيرة جداً، أكثر من خمسمائة آية عن الجهاد في سبيل الله.
حديث عنه يُبَيِّن أهميته، فضله، الإلزام به، الذم للمثبِّطين عنه، الترغيب فيه، توضيح للآداب والالتزامات العملية والأحكام المتعلِّقة به، كشف واقع الأعداء، وخطورتهم، ونقاط الضعف، ونقاط القوة، وأسباب النصر، وأسباب الهزيمة، وكل ما يتعلق بفريضة الجهاد في سبيل الله.
وفي هذا السياق نفسه جعله الله معياراً يُبيِّن مصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، هل هو مؤمن أم لا؟ ولهذا يقول الله في الرد على الأعراب، عندما: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}[الحجرات: من الآية14]، ردَّ الله عليهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: الآية15]، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[التوبة: من الآية111]، {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}[التوبة: 44-45].
يبين أنه شرط للفوز والنجاح: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: الآية142].
رغَّب فيه، بيَّن مكاسبه الكبرى للأمة، في الدنيا والآخرة، وسمَّاه تجارة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف: 10-11]، يعني: خيرٌ لكم في الدنيا والآخرة، ما وراء الإخلال به إلَّا الشر عليكم، والخطر عليكم، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف: 11-13].
ربط به النصر والتمكين للأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: الآية7]، يعني: لا يمكن للأمة أن تنتصر، لدفع الخطر عنها، ودفع شر أعدائها، بدون الجهاد في سبيل الله.
ثم نحن أمة لها رسالة، وعليها مسؤولية، ومنوطٌ بها التصدي لجبهة الشر:
الإسلام هو رسالة إنقاذ للمستضعفين وللبشرية، وتخليصٌ لها من سيطرة الطاغوت المرتبط بالشيطان، الذي يظلم الناس، ويذلهم، ويستعبدهم، فالإسلام رسالة تحرير، وإنقاذ، وحريَّة، وكرامة، وعزة، وشرف، ولإقامة القسط، ولنشر العدل، والحق، والخير، والقيم العظيمة في الحياة، ومثل هذه المهمة لابَّد أن يكون إلى جانبها الجهاد، وإلَّا فمعروف كيف يتصرف الأشرار، والطغاة، والمجرمون، في سعيهم لمنع مبادئ الإسلام وقيمه ورسالته، التي هي رسالة خيرٍ، ونجاةٍ، وفلاحٍ للبشرية.
في السياق الإيماني نفسه، أهمية الجهاد في التربية الإيمانية، وصلاح النفوس:
لأن الجهاد يعتمد أساساً على الإيمان، لابدَّ فيه من الثقة بالله، لابدَّ فيه من التوكل على الله، لابدَّ فيه من المحبة لله، لابدَّ فيه من الخوف من الله، هذه ركائز يبنى عليها الجهاد، وإلَّا لا تستطيع الأمة أن تتحرك للقيام بهذه الفريضة بدون ذلك.
لابدَّ أيضاً والإنسان يواجه فيه المخاطر، والتحديات، ويستشعر قرب لقاء الله، ويتوقع الشهادة في أي لحظة، لابدَّ أن يتجه بصدق بالتزام إيماني في أعماله، في سلوكياته، ويستشعر القرب من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويكون حريصاً على قبول عمله.
له أهميته على المستوى التربوي:
لأنه يربيك على العزة، على الكرامة، على الإباء، ينمِّي فيك هذه المشاعر على الحريَّة؛ وإلَّا هانت النفوس بدون ذلك، هانت، وتروَّضت على الهوان، وهبطت المعنويات، الاهتمامات… وغير ذلك.
أهميته كذلك في الارتقاء بالاهتمامات، والتفكير، والأعمال، والبرامج:
الأمة تكبر اهتماماتها، تتجه لما يبنيها لتكون قوية، بدلاً من أن تغرق في الأمور التافهة، والسيئة، والدنيئة، والرذائل، والمفاسد.
وكذلك أيضاً ارتبط به مصير المسلمين وعزهم:
النقلات والمتغيرات في تاريخ الأمة، سواءً في مسيرة النبي وحركته وجهاده “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، أو ما بعد ذلك، المراحل التي اعتز فيها المسلمون، وانتصروا، وبرزوا كأمة قوية في الساحة، حاضرة برسالتها، بدورها، بمشروعها العظيم، متى كانت؟ في إطار الجهاد في سبيل الله، عندما تجاهد الأمة، ما الذي غيَّر واقع المسلمين عمَّا كانوا عليه في مكة: من حالة الاستضعاف، من حالة الاضطهاد، من حالة الضعف نفسه؛ إلى وضعٍ مختلفٍ تماماً، ثم إلى وضع أكبر وأكبر، كلما استمر جهادهم؛ كلما ازدادوا قوةً، وتمكيناً، ونصراً، ومهابةً، وعزاً؟ كان ذلك مرتبطاً بالجهاد.
في أيام الفتوحات الكبرى للمسلمين، ما الذي تحقق للمسلمين؟ كيف تحققت تلك الفتوحات؟ كانت هي بحد ذاتها امتداداً لما قام به النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” من جهد كبير في تربية الأمة، وإحياء روح الجهاد فيها، وتعزيز الثقة بالله فيها، وتعويدها على النهوض بمسؤوليتها، والشعور بمسؤوليتها.
أمَّا في الحالة التي عطَّل المسلمون فيها الجهاد في سبيل الله، فقد تكبَّدوا خسائر كبيرة جداً:
الخسائر تبدأ من النفوس:
يفقد الناس الشعور بالقوة النفسية، بالعزة، وتترسخ حالة الذل في نفوس الناس؛ لتعطيلهم الجهاد، والخوف، والتهرب من أي موقفٍ قوي، وهي حالة خطيرة جداً، إذا انتشرت حالة الذل والخوف، كما هي سائدة في واقع الكثير من بلدان المسلمين.
على المستوى التربوي:
تراجع كبير، وضعف الاهتمامات، وَتَهَرُّب من أبسط الأعمال، يفقد الناس حتى روحيتهم العملية، وفعلاً ترى كيف يصل الحال بالكثير من المسلمين: أنه لا يصل في مستوى الفعل والموقف إلى مستوى أن يقاطع بضائع الأعداء، بل يدعم الأعداء بماله، لا يصل إلى مستوى أن يكون له موقف إذا كان ينشط أصلاً في الجانب الإعلامي، في إطار نشاطه ذلك: لدعم قضايا أمته، وتحمل المسؤولية تجاهها، أو للخروج مثلاً في مسيرات ومظاهرات وغير ذلك.
من أخطر النتائج هي: جرأة الأعداء على الأمة:
الأمة بتركها للجهاد يتجرأ عليها أعداؤها، يتشجَّعون عليها؛ لأنهم يرونها أمة ضعيفة، حسب التعبير المحلي: [مدفخة]، يضربونها متى شاءوا والأمر طبيعي جداً، يقتلون أبناءها، يحتلون أوطانها، يستهدفون مقدساتها، وهم غير قلقين من ردة فعل قوية، فهذه حالة خطيرة جداً، تراجع في مستوى الوعي عن الأعداء، بالرغم من حديث القرآن الواسع عنهم، وما يفيده الواقع في إطار الاهتمام والمتابعة.
عملياً: يتجه الأعداء للسيطرة على الشعوب، والتحكم بها في كل مجالات حياتها:
يحتلون الأوطان.
يستبيحون الأمة.
يخترقونها.
يستنزفونها في تحريك بعضها على البعض الآخر… وهكذا.
ومن أبرز ما يجلي لنا هذه الحالة المؤسفة: موقف الشعوب الإسلامية في الوطن العربي وغيره، تجاه مأساة الشعب الفلسطيني ومظلوميته في غزة، هي قضية واضحة، ليس فيها التباس، ليست المشكلة عند المسلمين أنَّ هناك التباس حول الموضوع، لكن كيف هو مستوى تفاعلهم مع مظلومية الشعب الفلسطيني؟ في أكثر البلدان، في أكثر الشعوب، ليس هناك أي اهتمام عملي أصلاً، لا على مستوى التبرعات لدعم الشعب الفلسطيني بالمال، لا على مستوى المسيرات والخروج والمظاهرات، الذين ينشطون إعلامياً بالملايين من تلك البلدان، اهتمامهم ضعيف، أو يكاد ينعدم تجاه هذه المظلومية، كذلك على المستوى الرسمي: هناك توجه بأن لا يكون هناك أي موقف فعلي لمناصرة الشعب الفلسطيني، وأقصى ما يقدَّم هو بيانات فيها عبارات- حتى العبارات ينتقونها- لا تكون مزعجة بشكلٍ أكبر للعدو الإسرائيلي… وهكذا، هذه الحالة المؤسفة، وهم يشاهدون مآسٍ رهيبة جداً، مظالم رهيبة جداً: قتل للأطفال، للنساء، للكبار، للصغار، جرائم إبادة جماعية، شعب من هذه الأمة، من المسلمين يتضوَّر جوعاً، وهم يتفرَّجون! الحالة الهابطة على المستوى النفسي التربوي، على مستوى الأخلاق والقيم، على مستوى الإباء، والعزة، والكرامة، والغيرة، والحمية، والأسف للمظلوم، تضرر كل شيء: تضررت الحالة النفسية، الحالة التربوية في واقع الأمة، وأسهم في ذلك الحكام، وأسهمت الأنظمة فيما وصلت إليه الشعوب في هذه الحالة.
في البلدان التي فيها تحرُّك، مثلما هو الحال في بلدنا في اليمن، هناك تحرَّك- بحمد الله، بتوفيق الله- لحمل راية الجهاد، شعبنا اليوم عملياً في حالة جهاد، وموقف فعلي، وموقف عملي، وموقف مواجهة مع الأعداء، هذه نعمة كبيرة جداً جداً، والوصول إلى هذه المرحلة: أن نكون في مواجهة مباشرة ضد أمريكا وإسرائيل وبريطانيا، هذا نعمة عظيمة جداً جداً، كثيرٌ من الشعوب كم ستحتاج من مراحل حتى تصل إلى مثل هذه المرحلة، بالنظر إلى ما قد صنعه الأعداء، وما تأثر به الواقع، تراكمات تحصل على الشعوب في الواقع، تراكمات نتيجةً للتقصير، تراكمات كبيرة، والتفريط، ونتيجةً لما عمله الأعداء وصنعوه من عوائق.
لكن في ظل هذه النعمة العظيمة جداً، هناك ذنب كبير جداً في التخاذل، في التفريط، في التنصل عن المسؤولية، في الإهمال، أمام هذه الفرصة التي قد هيَّأها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لذلك ينبغي أن نستشعر نعمة الله علينا، وهو “جَلَّ شَأنُهُ” القائل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: من الآية54]، الإنسان في إطار هذا الموقف يستطيع أن يقاتل، يستطيع أن يخرج ليتظاهر، يستطيع أن ينفق، يستطيع أن يتكلم، يستطيع أن يسهم بأي إسهام، الذين لهم عذرهم الشرعي يستطيعون في إطار النصح لله ورسوله، كما ورد في (سورة التوبة)، أن يساهموا بالتشجيع، بالكلام… بغير ذلك، فهي نعمة كبيرة جداً، نعمة، وفعلاً نرى ثمرتها: عزةً، كرامةً، مهابةً عند الأعداء، مهابةً كبيرة عند الأعداء، قوةً، ونرى ثمرتها أيضاً، ونرى أنها عامل نهضة فعلاً، عامل نهضة لتطوير القدرات والإمكانات… وغير ذلك؛ إنما كيف نتَّجه بشكل أكثر إخلاصاً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وجداً، واهتماماً، والتزاماً، التزاماً في بقية المجالات: على المستوى السلوكي والعملي بتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، واهتماماً ببقية المجالات، التي فيها قصور مُعَيَّن، أن نتلمس مواطن القصور؛ لنهتم بها، ونتفادى تقصيرنا فيها.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛